كتب جوني منير في “الجمهورية”:
ما من شك انّ ثمة تحولات سياسية كبيرة بدأت في منطقة الشرق الاوسط، وهي تلفح الساحة اللبنانية. كان من المتوقع ان تحصل هذه التحولات بعد حصول التفاهم النووي بين الولايات المتحدة الاميركية وايران، لكنّ لعبة المناورات واستنزاف الوقت كله وربما «زيادة» دفع الجميع الى وضع ملف التحولات الكبيرة على الطاولة. وعلى رغم التأخير الذي يتخلله تبادل اللكمات في بعض الاحيان بين واشنطن وطهران، فإن المراقبين ما زالوا على اقتناعهم بأنّ العودة الى الاتفاق النووي مسألة حتمية ولا مفر منها.
الاشارات الاميركية الاكثر صدقاً يمكن استخلاصها من العلاقات الاميركية ـ الاسرائيلية. في زيارته الاولى الى البيت الابيض، سمع رئيس الوزراء الاسرائيلي نفتالي بينيت من الرئيس الاميركي جو بايدن طلباً ووعداً بعدم قيام الحكومة الاسرائيلية بحملة دعائية تحريضية في حال توقيع الاتفاق النووي بين واشنطن وطهران.
الاستنتاج واضح، ذلك أنّ بينيت الذي باشر نسج علاقة دافئة مع الادارة الديموقراطية على أنقاض علاقة متوترة مع سلفه بنيامين نتنياهو، سيكون ملزماً بالانصياع لطلب بايدن والذي يعكس تفاؤلاً حيال توقيع الاتفاق.
وفي الأمس قال وزير الدفاع الاسرائيلي بيني غانتس ان اسرائيل ستكون مستعدة لعودة الولايات المتحدة الاميركية الى الاتفاق النووي مع ايران. اذاً، فإن العلاقات الاميركية ـ الاسرائيلية تُنبئ بأن الاتفاق حاصل، وأن ما يجري هو في اطار سياسة عصر الوقت واستنفاده حتى آخر ثانية، وهناك انطباع اميركي بأنّ ايران تلعب بأعصاب الدول الغربية.
في هذا الوقت جاءت التطورات المذهلة والسريعة في افغانستان، ما استوجب إجراء تعديلات في البرامج الموضوعة. هكذا هو الشرق الاوسط، ارض المفاجآت غير المحسوبة. فعودة حركة «طالبان» الى الامساك بكافة مفاصل افغانستان فرضت على دور الجوار تعديل استراتيجياتها بسبب واقع صعب سيطول كثيراً ليصبح اكثر تعقيداً، وربما اكثر دموية.
هذا التحول الافغاني الذي كرّس لقطر دوراً لا غنى عنه بعد الآن بالنسبة الى الغربيين، دفع روسيا الى التعجيل في ترتيب ملفات الشرق الاوسط بالتفاهم مع الولايات المتحدة الاميركية.
فبعد زيارة الملك الاردني لموسكو في أواخر آب الماضي، وهي الاولى لملك اردني يزور روسيا منذ نحو 20 عاماً، زارها وزير الخارجية الاسرائيلية يائير ليبيد، وبعده بـ5 ايام فقط زارها الرئيس السوري بشار الاسد.
قمة بوتين ـ الاسد، والتي جاءت بطلب من الاول، سرقت الاضواء الاعلامية. ذلك انّ حصولها في هذا التوقيت وعلى هذا المستوى يعني ان ثمة مواضيع اساسية ومُلحّة تم البحث فيها. فالقمة حصلت بعد التطورات العسكرية في محافظة درعا الجنوبية، والتي كان لروسيا دور اساس في صوغ حلولها. اضافة الى عودة الغارات الروسية الى ادلب في اطار الضغط على تركيا.
وبالتزامن، عقدت قمة مصرية ـ اسرائيلية في شرم الشيخ وهي اول زيارة رسمية لرئيس الوزراء الاسرائيلي لمصر منذ نحو 10 سنوات. صحيح ان بنيامين نتيناهو كان قد زار القاهرة عام 2018، إلا أن الزيارة كانت سرية ولم تكن رسمية.
الواضح انّ مصر هي التي طلبت اللقاء، وقيل ان الهدف من ذلك توسّل مساعدة بينيت لتحسين علاقات الرئيس المصري مع إدارة بايدن. وهي الهدية التي يقدمها بايدن لبينيت. صحيح ان رئيس الوزراء الاسرائيلي كان يتمنى حصول اللقاء في القاهرة، لكن السيسي أحاط ضيفه بالحفاوة ووضع خلفه للمرة الاولى العلم الاسرائيلي. بينيت يهمه غزة ومعبر رفح الذي تتحكم به مصر الى غزة، وضرورة التشدد في مراقبته منعاً لدخول الاسلحة، وكذلك يهمه النفوذ الايراني خصوصا في سوريا ولبنان.
وفي المقابل يبدو رئيس الوزراء الاسرائيلي مستعداً للسعي الى تحسين علاقات مصر بإدارة بايدن اضافة الى علاقات السعودية بالادارة الاميركية، وحجّته ان استمرار البرودة في العلاقات الاميركية مع اهم بلدين عربيين سيدفع بهما الى احضان الصين.
وفي الواقع إنّ بايدن، ومن خلال سياسته هذه، يدفع بمصر والسعودية الى احضان اسرائيل عن سابق تصور وتصميم. وفي المحصّلة فإن اسرائيل تسعى الى تشكيل جبهتها في وجه ايران. واضافة الى الصواريخ الدقيقة والتي يمتلك «حزب الله» كثيرا منها في لبنان، فإن القلق الاسرائيلي تضاعف جراء طائرات «الدرونز» ذات الصناعة الايرانية والتي اصبحت منتشرة في العراق وسوريا واليمن ولبنان. وقيل ان ايران دربت حلفاءها في هذه الدول وساعدتهم على تصنيع هذه الطائرات. وكان وزير الدفاع الاسرائيلي قد صرح أن ايران تدرب ميليشيات في العراق وسوريا واليمن ولبنان على طائرات مسيرة متطورة تسمّى «كاشان».
وفي هذا التوقيت، حصلت قمة بغداد حيث الاتفاق الفرنسي – العراقي بالتفاهم الضمني مع ايران حول صفقة الـ 27 مليار دولار لحساب شركة «توتال» في محافظة البصرة. وفي هذا الوقت نفسه حصل الدفع الاميركي لتأمين استدراج الغاز المصري الى لبنان عبر الاردن وسوريا، والذي يلحظ ضمناً البدء بكسر «قانون قيصر». وفي اللحظة نفسها جاء قرار استقدام بواخر المازوت والبنزين من ايران الى لبنان ولكن عبر سوريا وليس مباشرة.
من هنا لا يمكن قراءة البواخر الايرانية في الاطار الضيّق فقط، لا بد من قراءة المعنى السياسي والظروف المحيطة.
البعض قرأها في اطار سعي «حزب الله» الى تعديل قواعد الاشتباك مع اسرائيل، فلقد اصبح هنالك خطاً بحرياً ولو غير مباشر بين ايران ولبنان. وفي آب المنصرم حاولت اسرائيل تعديل قواعد الاشتباك الميداني مع «حزب الله» في جنوب لبنان، من خلال الاستفادة من الظروف السياسية اللبنانية المعقدة والانهيار الاقتصادي الموجع. واستخدمت اسرائيل طائراتها الحربية للمرة الاولى منذ عام 2006. لكن «حزب الله» رد بـ 19 صاروخاً، وفشلت مساعي اسرائيل لتعديل قواعد الاشتباك الميداني.
وخلال المواجهات الحاصلة بين الطرفين، تحاشت اسرائيل كما «حزب الله» سقوط خسائر بشرية او حتى مادية جسيمة، ما يعني عدم النية بالانزلاق في اتجاه الحرب.
اليوم نجح «حزب الله»، ومن خلال الواقع الاقتصادي المزري، في إدخال عامل جديد الى المعادلة اللبنانية ولو من البوابة السورية وليس مباشرة. وهو عامل يسعى الحزب الى استخدامه في اعادة ترميم علاقاته مع المكونات اللبنانية الاخرى، والتي ابتعدت عنه منذ 17 تشرين 2019. الواضح ان حركة الباخرة الايرانية متناغمة مع كامل الصورة الاقليمية والتطورات المتسارعة فيها. لكن هذا لا يعني ما «شَطَح» بعض التحليلات والاستنتاجات في اتجاهه، حين اعتبرت ان هنالك صفقة بإعطاء لبنان الى ايران، والبعض الآخر تحدث عن اعطائه لسوريا.
في الواقع هي قراءات مبسطة لواقع اكثر تعقيداً، ففي لبنان «خلطة» دولية جديدة لا يستطيع احد تجاوزها. فهنالك اوروبا من خلال فرنسا وبدرجة اقل المانيا، عبر رعايتها برنامج الاصلاحات ومن ثم برامج المساعدات واعادة بناء البنية التحتية الاقتصادية التي دُمرت تماماً.
وهنالك ايران التي سيكون دورها من خلال «حزب الله» بعد ان ساعد انطباع في أن حرب «خنق» هذا الحزب وتدميره ستسير الى النهاية ولو دُمّر لبنان بأسرع وقت على رؤوس اللبنانيين. لكن امام «حزب الله» برنامج كامل له علاقة بترسيم الحدود البحرية والبرية الجنوبية. وفي المعلومات ان شركة «توتال» لم تلحظ ايضا في موازنتها لروسيا تأثيراً ولو محدوداً على الساحة اللبنانية، مع الاشارة الى طموح موسكو لانتزاع موقع لها في موضوع استخراج الغاز من البحر اللبناني. وهنالك اخيراً مصر التي امنت لها دوراً وحضوراً من خلال امداد لبنان بالغاز المصري، والاهم سعي مصر الى ملء الفراغ الناتج من انسحاب السعودية من لبنان، والعمل على رعاية الساحة السنية فيه.
لذلك من التبسيط بمكان الحديث عن تلزيم جديد للبنان الى ايران او سوريا، مع التأكيد ان المعادلة الجديدة الجاري بناؤها لن تلحظ شطب اي مكوّن، بل اجراء تعديلات بما يتلاءم مع المتغيرات والمستجدات الاقليمية.