في قاموس الدول الطبيعية في العالم، التي يحتكم قادتها الى دساتيرها ويسعون الى رفعتها وازدهارها وتقدمها، ثمة ثابتتان اساسيتان غير مسموح المسّ بهما مهما تقلبت الظروف السياسية او عصفت بها رياح التغيير، الامن والاقتصاد. فاستقرارهما هو العمود الفقري للدول ومتى اهتز احدهما، فقدت الدولة مناعتها وقدرتها على التطور ومواجهة التحديات. هذا في المنطق العام. اما في لبنان، حيث نسي اللبنانيون معنى الدولة بعدما استسلمت كليا لأمر الدويلة ومافيات الفساد والسرقة، فتختلف الامور ويغيب المنطق وكل ما له يتصل به، اذ يوضع الاستقرار الامني والاقتصادي في “بوز المدفع” وتوجه الى القطاعين نيران المستفيدين من دكّهما للتعمية على مصالح انانية خاصة تمعن في ضرب ما تبقى من هيبة الدولة المتهالكة، تارة عبر الاعلام المجنّد لخدمتها واخرى عبر مواقع التواصل الاجتماعي التي تحرك بكبسة زر جيوشها الالكترونية لتأليب الرأي العام، لا سيما التبعي الجاهل للحقائق، على القادة الامنيين والمسؤولين عن الاقتصاد والنقد، وقد نجحت في ذلك تكرارا، من دون ان يطل احد من اهل السلطة المتغنين ليل- نهار بسعيهم الى بناءالدولة ليصوّب البوصلة ويكشف الحقيقة او على الاقل يفتح تحقيقا في ما يشاع.
وفيما اخفقت الحملات في تشويه صورة قادة الاجهزة الامنية وفي شكل خاص قائد الجيش العماد جوزيف عون المشهود لتفانيه في سبيل المؤسسة العسكرية وصونها منعا لتفككها بعدما تركها السياسيون لقدرها تواجه التحديات الاقتصادية والاجتماعية الخانقة، بحيث لفّ العالم سعيا لتأمين مساعدات للعسكريين تقيهم “البهدلة” والعوز والجوع، بقي حاكم مصرف لبنان رياض سلامة من دون “محامي دفاع” وتمكن المغرضون من اصابته بأكثر من رصاصة، بحيث اقتنعت شريحة واسعة من الرأي العام اللبناني بأنه المسؤول الاول والوحيد عن انهيار لبنان وازماته برمتها وان اهل السياسة ممن عاثوا فسادا في الدولة على مدى ثلاثين عاما ابرياء اتقياء لا ناقة لهم ولا جمل في جحيم لبنان الذي يقبع في ظله الشعب. واكثر، تمكنت السلطة من اقناعه ان سلامة مسؤول عن رفع الدعم وعن كل قرش يُرفع في اسعار المواد الاستهلاكية وعن انقطاع البنزين والمازوت والدواء وعن هدر نحو 7 مليار دولار انفقت على الدعم الذي هربوه الى سوريا او خزّنه اتباعهم من دون ان يفتح تحقيق، ولو من باب رفع العتب في التهريب والتخزين.
قد يكون سلامة اخطأ في مكان ما، وكان الاجدى به عدم دخول لعبة استدانة الدولة من اموال الشعب طوال عقود، وعدم الاكتفاء بالتحذير تارة من اقرار سلسلة الرتب والرواتب واخرى من عدم دفع سندات اليوروبوند وغيرها الكثير من المحطات التي اسهمت في الانهيار، غير ان الاكيد المؤكد انه ليس مسؤولا عن كل المصائب والملمّات التي تسببت بها المنظومة السياسية بفسادها وهدرها ومحسوبياتها ومشاريعها التي استنزفت كل قرش في المالية العامة من دون ان تسهم في الحل، والكهرباء دليل ساطع، في ظلمة ايام اللبنانيين الحالكة بعدما استهلكت اكثر من نصف الدين العام حتى اليوم.
في هذا المجال، تؤكد اوساط وزارية مطلعة لـ”المركزية” ان الاستحقاق الاول امام حكومة الرئيس نجيب ميقاتي هو التفاوض مع صندوق النقد الدولي. وتقول ان تجربة حكومة الرئيس حسان دياب مع الصندوق كانت سيئة، بعدما وضعت شركة لازارد للتدقيق خطة التعافي الاقتصادي للحكومة التي انقسم حولها الوسط السياسي لانها حملت على المصرف المركزي والمصارف وحمّلتهم مسؤولية الازمة برمتها، معتبرة ان في مصرف لبنان فجوة مالية طالبت بلجنة تحقيق فيها لتحديد المسؤولية. وتسبب الخلاف السياسي انذاك بتجميد التفاوض مع الصندوق واجهضت خطة التعافي وانهارت العملة والاقتصاد. وتسال الاوساط ماذا ستفعل حكومة ميقاتي اذا تمسك فريق العهد بخطة التعافي هذه. وهل سيتم توزيع الخسائر بين المواقع والمسؤولين؟ كيف ستتصرف الحكومة في ما لو عاد الانقسام بين اعضائها وعطل التفاوض؟علما ان لا مساعدات دولية ان لم تضع الحكومة خطة انقاذ واضحة ورؤية موحدة وموقف واحد من القطاع المصرفي. وتشدد في هذا المضمار على ضرورة التوافق بين رئيسها ووزير المال يوسف خليل وحاكم مصرف لبنان، بحيث تضع الترويكا هذه ورقة اصلاح للقطاع من ضمن خطة اقتصادية، لان لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي مستقر وصلب، فقوة الدولة ولبنان في شكل خاص باستقراراه الامني والاقتصادي باعتباره يوفر الثقة بين الدولة المواطن، فهل تعيد الحكومة الميقاتية المفترض ان تُسبغ بصفة الانقاذ ثقة تزعزعت في العمق بقطاع المصارف والمصرف المركزي، لاعادة بناء الدولة ام لن يكون في الامكان افضل مما كان؟