كتب شارل جبور في “الجمهورية”:
لا تكفي إرادة الرئيس نجيب ميقاتي بإنجاح حكومته، لأنّ الظروف المحيطة إما تشكّل عاملاً مساعداً في النجاح، وإما عاملاً معرقلاً ومفشلاً للحكومة، خصوصاً انّ طبيعة المرحلة سياسية بامتياز، بدءاً من الانتخابات النيابية، وصولاً إلى الانتخابات الرئاسية.
نجاح الحكومة مضمون بحالة واحدة، فيما لو تأخذ القوى السياسية المعرقلة بطبيعتها إجازة مفتوحة، ولكن الأمر مستحيل وغير وارد، ومن أبرز الأمثلة الحديثة على ذلك، هجوم النائب جبران باسيل على الرئيس نبيه بري بعد تشكيل الحكومة وقبل جلسة الثقة، اي في لحظة تبريد واسترخاء سياسيين، ولكنه أبى إلّا ان يوتِّر الجو السياسي في موقف غير مفهوم الأسباب والخلفيات والتوقيت، وأتى من خارج سياق الأحداث، ناقلاً عن بري قوله في مجالسه طبعاً: «الله لا يخلّيني إذا بخلّي عون يحكم»، وسرعان ما ردّت مصادر كتلة «التنمية والتحرير» على هذا الكلام بوصف باسيل بـ»فاسق يتنبأ».
وهذا النمط من المواجهات ليس جديداً على باسيل، بل هو القاعدة التي يعتمدها والمعتمدة أساساً منذ رئاسة العماد ميشال عون لـ»التيار الوطني الحر»، وفي ظل اعتقاد التيار انّ هذا النوع من المواجهات المفتوحة يحظى بتأييد شعبي واسع، وانّ شعبية التيار مردّها إلى هذه السياسة المعتمدة، علماً انّ هذه السياسة بالذات ساهمت في تسريع وتيرة الانهيار، ووضعت رئاسة الجمهورية في مواجهة مع الجميع، ويكفي استذكار جولات باسيل المناطقية قبل 17 تشرين 2019، وتنقُّل مواجهاته ضدّ هذا الطرف أو ذاك.
وإذا كانت طبيعة الحياة السياسية وحيويتها تستدعي وجود معارضة وموالاة، ومواقف مؤيّدة وأخرى معارضة، إلّا انّ المواجهات بسبب ومن دون سبب ومن فريق ليس في المعارضة بل يتبوأ أعلى موقع في السلطة، ليست مسألة صحية على الإطلاق، فضلاً عن انّ هذه السياسة أدّت إلى نتائج عكسية، بدليل انّ غضب الناس في انتفاضة 17 تشرين تركّز ضد باسيل شخصياً، وهذا ليس عن طريق الصدفة، إنما بفعل مواجهاته المفتوحة مع الجميع وعلى كل شيء.
وأما في خلفيات هجوم باسيل على بري، فيمكن التوقُّف أمام ثلاثة أمور:
الأول رفع مسؤولية الانهيار والفشل عن كاهل رئيس الجمهورية ورميها على رئيس المجلس «المتحكِّم بزمام الأمور»، وفق قول باسيل، وسياسة «ما خلّونا» ستتواصل فصولاً في المرحلة المقبلة. والثاني فتح معركة استباقية مع بري على خلفية الانتخابات الرئاسية المقبلة. والأمر الثالث رسالة مبكرة إلى بري على خلفية الاشتباك المبكر بين حركة «أمل» و»التيار الحر» حول ملف الكهرباء وإنشاء المعامل، في لجنة البيان الوزاري، مع إصرار وزراء «أمل» على حصر التسمية بمعملَي دير عمار والزهراني، وإسقاط معمل سلعاتا من برنامج الحكومة والذي يتمسّك به التيار، وكان مدار خلاف مستمر في الحكومات السابقة، وبالتالي أراد ان يوجِّه رسالة مبكرة إلى بري بأنّه في حال أراد مواجهته في ملف الكهرباء، فإنّه لن يحصر المواجهة بالمعامل بل سيفتحها على مصراعيها.
وكان باستطاعة باسيل مثلاً ان يرحِّل مواجهاته إلى وقت آخر، ولكن هذا يدلّ الى حجم الألغام السياسية التي تنتظر الحكومة قبل نيلها الثقة، وهذا لم تبدأ بعد الحملات الانتخابية التي من الواضح انّ باسيل سيخوضها تحت عنوان حقوق المسيحيين وصلاحياتهم والتصويب على الثلاثي بري والرئيس سعد الحريري والنائب السابق وليد جنبلاط.
وإنتاجية اي حكومة تتطلّب التجانس داخل مجلس الوزراء، وهو ليس فقط غير موجود، إنما كل طرف ينتظر الآخر على كل مفترق، فلا باسيل سيجعل أخصامه في وضع مريح، ولا هؤلاء في وارد منحه فرصة تحسين صورته عن طريق حكومة ميقاتي، كما تتطلّب بيئة سياسية حاضنة، ويستحيل تأمين بيئة من هذا النوع عشية استحقاق نيابي يليه استحقاق رئاسي وصراع مكشوف ومفتوح تحت سقف البيت الواحد.
فنجاح الحكومة يتطلّب ظروفاً سياسية مؤاتية لا تصفية حسابات سياسية على قاعدة «يا قاتل يا مقتول»، خصوصاً مع دخول العهد في سنته الأخيرة، واي عهد في آخر ولايته يكون في موقع ضعف لا قوة، وكيف بالحري مع فريق سياسي امتهن المواجهات مع معظم الأطراف التي تجد في الاستحقاقين المقبلين، النيابي والرئاسي، مناسبة للاقتصاص منه، وفي طليعة هؤلاء الحريري، الذي يعتبر انّ العهد مسؤول عن إحراجه لإخراجه، وانعكاس عدم دخوله السرايا الحكومية على وضعيته السياسية والشعبية؟
وفي هذا الجو السياسي المتوتر، لا يمكن الكلام عن نجاح بالحدّ الأقصى لحكومة ميقاتي، إنما نجاح بالحدّ الأدنى ربطاً بثلاثة اعتبارات أساسية: دعم المجتمع الدولي للحكومة ومدّ يده لمساعدتها، حاجة الناس إلى حلول للخروج من أزماتها اليومية، وحاجة ميقاتي للنجاح في مهمته، من أجل ان يبقى في السرايا أطول فترة ممكنة، لأنّ خروجه يصعِّب عليه دخوله مجدداً، ما يعني انّ إفشال حكومته من هذه الزاوية يشكّل هدفاً بدوره.
وعلى هذا المستوى بالذات، هناك خلاف بين توجّهين: التوجُّه الذي يريد من حكومة ميقاتي ان تكون حكومة انتقالية تنتهي صلاحيتها ومدتها مع الانتخابات النيابية، لأنّ حكومة ما بعد الانتخابات قد تعمّر طويلاً، وبالتالي يرجّح ان يتقدّم الحريري بتكليفه بمعزل عن قدرته على التأليف أم عدمه، إنما سيعود إلى الضوء من باب الانتخابات التي يأمل ان تمكّنه من الحفاظ على وضعيته المتقدمة سنّياً، وسيُقنع نادي رؤساء الحكومات وغيره، بأنّ تكليفه ليس موجّهاً ضد ميقاتي بطبيعة الحال، إنما في سياق ردّ الاعتبار في المواجهة المفتوحة مع العهد، وتثبيتاً لنتيجة الانتخابات التي لا يمكن للرئيس عون تجاهلها.
وأما التوجُّه الثاني، فيقوده ميقاتي الذي يريد تحويل حكومته إلى حكومة تأسيسية لمرحلة إنقاذية تحقِّق ثلاثة أهداف متلازمة: وقف الانهيار، فكّ العزلة، وبداية مشوار التعافي الاقتصادي. ولا يعوِّل ميقاتي في هذه الحكومة مبدئياً سوى على عمله وشبكة علاقاته وإصراره على نقل الوضع الاقتصادي من مرحلة إلى أخرى، لأنّه يدرك حجم التناقضات داخل حكومته، كما يدرك سياسة تصفية الحسابات في كل الاتجاهات.
فأقصى ما يمكن ان تحقِّقه الحكومة يتراوح بين لجم ارتفاع الدولار والشروع في المفاوضات مع صندوق النقد وتلقّي مساعدات خارجية وفك العزلة عن الحكومة وحلّ الأزمات الحياتية بتحرير الأسعار. وهذا كافٍ لتجميد الوضع، ولكن من الصعب تحقيق أكثر من ذلك في ظل قوى سياسية تتربّص ضدّ بعضها وتزرع الألغام المتبادلة.
فالوضع مع حكومة ميقاتي سيكون بالتأكيد أفضل مما هو عليه اليوم بفعل مجهوده الشخصي، ولكنه سيقف عند سقف وحدود معينة لثلاثة أسباب أساسية: الموقف الخليجي الذي سيبقى على تحفّظه بسبب هيمنة «حزب الله» على القرار السياسي، ومعلوم انّه من دون المساعدة الخليجية لا مجال للخروج نهائياً من الأزمة المالية، الصراعات السياسية التي ستستعر مع الانتخابات النيابية والرئاسية، والفريق الحاكم الذي لن يتساهل مع إصلاحات تمسّ بموارده وتنعكس على وضعيته، حيث انّ علّة وجوده تتناقض مع كل منظومة الإصلاح، ولذلك، فإنّ نجاح حكومة ميقاتي سيكون فيفتي- فيفتي.