… على طريقة «سباق البدل»، انتقلت المعركة في لبنان من صراع «تكسير العظام» على تشكيل الحكومة التي لم يُفرج عنها إلا بعد نحو 13 شهراً، إلى صراعٍ لا يقل ضراوة على صناديق الاقتراع في ملاقاة الانتخابات النيابية المقررة في مايو 2022.
الحكومة والبرلمان يشكلان معركةً واحدةً، على جبهتيْن، تختزل جميع مكونات الصراع المحلية والإقليمية، على السلطة وتوازناتها وعلى التموْضع الإقليمي للبنان في سياق حرب النفوذ اللاهبة في الساحات الأكثر اشتعالاً على الكوكب.
فالحكومة التي انخرط في تأليفها «العالم» بأسره ولم تبصر النور إلا بتفاهُم فرنسي – إيراني وبإشاحة نظر أميركية، دفع «حزب الله» بمركب توازناتها من الخلْف في إطار معركةٍ ثلاثية قاسية تدور في لبنان العَصيّ على التغيير… الحكومة، البرلمان ورئاسة الجمهورية.
ومع تشكيل حكومة الرئيس نجيب ميقاتي صارت الأضواء مسلطة على الاستحقاق النيابي، الذي تُستحضر «سكاكينُه» الداخلية وسط رهان خارجي على إمكان تحويله فرصة لإحداث خرق يُعتد به من شأنه تقليم أظافر المنظومة السياسية الحاكمة وفتح الأبواب أمام هواء جديد يحمل معه احتمالات التغيير.
ويشكل قانون الانتخاب، منذ انتهاء الحرب «وسوْرنة» اتفاق الطائف ورقةَ مساومةٍ بين القوى السياسية والتدخلات، إقليمية كانت أو دولية.
فالعملية «الديموقراطية» التي كان استردّها لبنان قبل ثلاثين عاماً وعقب تمديد متواصل للبرلمان إبان الحرب التي دهمتْه في العام 1975، بدأت شرارتُها باكراً في الطريق إلى هذا الاستحقاق الموعود بعد نحو 8 أشهر.
الانتخابات النيابية التي يفترض أن تكون عملية ديموقراطية في إطار تداول السلطة، تحوّلت في لبنان على مدى ثلاثين عاماً إلى فرصة لفرض هيمنات سياسية وأمنية واللعب بالتوازنات بين المجموعات اللبنانية، السياسية والطائفية، وهو ما أدارتْه الوصاية السورية من خلال قوانين الانتخاب التي كانت تُرسم في مقر استخباراتها في عنجر وتحمل اسم ضباطها (غازي كنعان).
وغالباً ما كان يتم في تلك الحقبة تفصيل قوانين الانتخاب على قياس حلفاء سورية وسط ظواهر «المحادل الانتخابية» واللوائح المعلّبة وأصوات المجنَّسين وازدهار سوق البيع والشراء و«النواب الودائع» وما شابه.
ورغم السطوة التي مارستْها دمشق، بقيت المعارضة للوجود السوري – الذي تحكّم بالنظام وتمكّن من التمديد مرتين للرئيس الياس الهراوي وإميل لحود – قادرةً على فرض إيقاعها الخاص، وخوض الانتخابات والوقوف في المجلس النيابي على منبر المعارضة للنظام السوري والحكومات التي كانت تُواليه، بفعل موازين القوى التي سلّم بها الرئيس رفيق الحريري.
خرجت المعارضة، وفي ذلك الوقت كان عمادها القوى والأحزاب المسيحية، من تجربة مقاطعة انتخابات عام 1992، بمراجعةٍ حول سلبيات وحسنات المقاطعة التي ساهمت جزئياً في خروج المسيحيين من الحُكْم ومن الإدارة.
في الانتخابات اللاحقة 1996 و2000، تمكنت القوى المسيحية المُعارِضة من تحقيق مكاسب لافتة، رغم القانون المجحف، الذي أرادتْه سورية على قياس حلفائها لتمكينها من السيطرة على مجلس مؤلف من 128 نائباً.
مع ذلك، وفي غياب الأحزاب المسيحية من «القوات اللبنانية» و«التيار الوطني الحر» و«الكتائب»، تمكنت الشخصيات المُعارِضة وبعضها انضوى لاحقاً تحت لواء «قرنة شهوان»، من فرض إيقاع سياسي مُعارِض تحت قبة البرلمان. وشهدت جلساتٌ نيابية حامية وقوفَ نوابِ المعارضة في وجه سورية والسياسات الاقتصادية والمالية آنذاك.
قبل اغتيال الحريري في 14 فبراير 2005، كانت بكركي (البطريركية المارونية) تنادت مع القوى المسيحية المُعارِضة لتغيير قانون الانتخاب وسط تَفاهُمٍ أداره لقاء «قرنة شهوان» مع الرئيس رفيق الحريري ورئيس التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط. كان وزير الداخلية حينها سليمان فرنجية، فبدأ الكلام عن إعطاء المسيحيين فرصة انتخاب ممثليهم الحقيقيين، فأعيد إحياء قانون 1960 القائم على دوائر مصغرة (الأقضية) مع بعض التعديلات الطفيفة.
لم تصدّق القوى المسيحية أن قانون 1960 سيبصر النور، لكنه تحوّل حقيقة قبل أن يطيح اغتيال الحريري به، وأعيد العمل بما يُعرف بقانون غازي كنعان، تحت وطأة الضغط الدولي بضرورة إجراء الانتخابات عام 2005 بلا تأخير.
مع انتهاء مفاعيل انتخابات عامي 2005 و2009، اللتين أعطتا الغالبية للمعارَضة التي فشلتْ في الحُكْم لمصلحة تسويات مع رئيس البرلمان نبيه بري و«حزب الله»، بدأ الكلام مجدداً عن قانون جديد للانتخابات، في ضوء اجتياح الحزب لبيروت وبعض الجبل في 7 مايو 2008 وما تلاه من اتفاق الدوحة الذي طالب المسيحيون خلاله بإعادة العمل بقانون 1960، رغم أصوات معترضة على انه لم يعد قابلاً للحياة، وسيعطي مفاعيل عكسية.
الأحزاب والقوى المسيحية التي عادت إلى الساحة، بفعل تطورات عام 2005 ومع خروج رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع من السجن وعودة العماد ميشال عون من المنفى في باريس، أصرت على القانون.
أُجريت انتخابات 2009 وفق القانون المذكور، وما أن انتهت الانتخابات حتى بدأ الكلام مجدداً عن قانون جديد للانتخابات.
وبعد الأخذ والرد حول مشروع القانون الأرثوذكسي (كل طائفة تنتخب نوابها)، وسِجال أعوام مُدّد فيها للبرلمان مرتين، أقر مجلس النواب قانوناً مزيجاً من النسبي والأكثري، وكانت المرة الأولى التي يعتمد لبنان النسبية ولو جزئياً.
لكن رغم إجراء الانتخابات عام 2018، عاد الكلام مجدداً عن ضرورة إدخال تعديلات على القانون، وصولاً إلى المرحلة الراهنة التي ستكون الحكومة ومجلس النواب أمام هذا الملف الشائك، ولا سيما في ضوء تَصَدُّر بري المطالبة بالتعديل، ومجاراة تيار «المستقبل» وجنبلاط لهذا الأمر، ورفْض القوى المسيحية وإصرارها على إجراء الانتخابات وفق القانون الحالي.
منذ 2005، والقوى المسيحية تخوض معركة قانون الانتخاب. لكن المشكلة اليوم ذات وجهين، الأول قانوني يتعلق بحيثيات القانون في ذاته.
وهنا تخوض القوى المسيحية المعركة متفقة في ما بينها، من دون السماح للخلافات السياسية الجوهرية بينها بأن تشكل عائقاً أمام وحدة الصف في معارضة تغيير القانون لا سيما في الشق المتعلق بالنظام المعتمد والدوائر المقترَحة.
الثاني سياسي، فالقوى المسيحية اليوم متفقة في الظاهر على ضرورة إجراء الانتخابات في موعدها.
لكن هناك بعض التمايز في هذا الموقف، نتيجة التطورات السياسية التي لحقت بالشارع منذ 17 أكتوبر 2019، لا سيما على أبواب استحقاق رئاسة الجمهورية.
فـ «التيار الوطني الحر» بقيادة صهر الرئيس ميشال عون النائب جبران باسيل، يخوض اليوم معركةَ إثباتِ الوجود كأكبر كتلة نيابية مسيحية أوصلت عون إلى قصر بعبدا، ويفترض أن توصل باسيل إليه خريف 2022.
والتيار الحر الذي يعرف أن هناك خسائر لحقت به، ومنها خروج نواب من كتلته النيابية، قد لا يمانع تأجيل الانتخابات إذا كانت ستلحق به خسارة إضافية في حصته النيابية.
ورغم أن المجتمع الدولي مُصِرّ على إجراء الانتخابات في موعدها، إلا أن هذا الأمر يتحوّل أحياناً كثيرة إلى شعارت لا تأخذ بها القوى السياسية المحلية إذا لم تلائم مصالحها.
ويحاول التيار الحر منذ الآن، وبعد الانتهاء من تأليف الحكومة الاستثمار في هذه التشكيلة، على أبواب الانتخابات.
من هنا كان إصراره على نيل حقائب خدماتية بقدر إصراره على الحقائب السيادية. لكن الرهان الأساسي بالنسبة إليه يبقى تشكيل الحكومة بالمعيار الذي يتوافق مع الاتجاه السياسي للعهد، الأمر الذي يساعده على استعادة مكانته في السنة الأخيرة من ولاية عون.
أما «القوات اللبنانية»، ومعها حزب الكتائب الذي قدم نوابه استقالتهم من البرلمان عقب انفجار مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس 2020، فهما كانا من المطالبين بتقديم موعد الانتخابات.
وبما أن المُهَل لم تعد تسمح بذلك ولا التوافق السياسي، فإنهما مصران على إجراء الاستحقاق في موعده. ويتمايز الطرفان في خوض هذه المعركة، فرئيس القوات سمير جعجع مرشح لرئاسة الجمهورية، ويستعدّ لمعركته تحت خانة تعزيز كتلته النيابية، مستفيداً من زخم الشارع المُعارِض لعهد عون، وخصوصاً بعد تحولات 17 أكتوبر، والذي حاول جعجع استقطابه في خطابه في ذكرى شهداء القوات.
وهذا الرهان القواتي يبدو عالياً في هذه المرحلة على استثمار الناخبين المسيحيين في مواجهة التيار الوطني في السنة الأخيرة من عمر العهد، وعلى قاعدة الاحتمالات التي لا تبشر بالخير بإمكان نجاح الحكومة والعهد في تحقيق أي إنجاز في المدى المنظور.
وإذا كانت أحزاب القوات والكتائب والتيار الوطني الحر تتنافس انتخابياً في المناطق نفسها تقريباً، فإن دخول تيار «المردة» من خلال الحكومة على خط كسروان من خلال الإتيان بوزيرين من القضاء، يحمل نكهة انتخابية.
لكن الانتخابات بالمعنى التنفيذي هي انتخابات ذات طبيعة عائلية، والوزيران لا يحملان ثقلاً انتخابياً، لكن بمجرد أن يُحتسبا من حصة «المردة» وحليفها النائب الكسرواني فريد هيكل الخازن فإنه يضيف إلى معركة الانتخابات جانباً آخر، لا سيما أن المردة بتسميتها الرئيس نجيب ميقاتي حليفها القديم، رئيساً للحكومة إنما يفتح باب التحالفات الانتخابية مبكراً، وفي شكل يتقدم به على القوى المسيحية الأخرى.
إذ من السابق لأوانه أن تُعِدّ هذه القوى من الآن خريطة تحالفاتها، وقد أصيب بعضها بأضرار نتيجة سياسات الأعوام الفائتة، قبل حسم مصير القانون، وموعد الانتخابات، ومن ثم الانصراف إلى تحالفاتٍ، تسمح بحصْد الحصة الأكبر من مقاعد 64 نائباً مسيحياً.