ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الأرثوذكس المطران الياس عوده، قداس الأحد في كاتدرائية القديس جاورجيوس.
بعد الإنجيل، قال في عظته: “عيدت كنيستنا المقدسة في الرابع عشر من أيلول لعيد رفع الصليب الكريم المحيي. هذا العيد مناسبة للتأمل في سر الفداء الذي أتمه الرب على الصليب. إن الرب يسوع هو الرب الغالب الموت، إلا إنه أيضا الفادي المصلوب الذي بذل نفسه فداء عن البشرية ليعتقها من براثن الشيطان والشر. لقد مات على الصليب لإصلاح ما أفسدته الخطيئة، وهل من حب أعظم من أن يموت الإنسان فداء عن أحبائه؟ إذا العلاقة بين المحبة والصليب وثيقة. لو لم تكن المحبة الدافع الأول لقبول الصلب لكان الصليب خشبة عادية، لكن محبة الله غير المحدودة تجلت على الصليب لذلك الصليب عندنا نحن المخلصين قوة الله (1 كو 1: 18)”.
أضاف: “نحن نذكر آلام الرب وصلبه بفرح ورجاء كبيرين لأنه بالصليب قد حصل خلاص العالم. لذلك وضعت الكنيسة عيد رفع الصليب في بداية السنة الطقسية لكي ترشدنا إلى رأس خلاصنا وتوجهنا نحو الأهم في حياتنا، نحو الفصح المقدس الذي يبتدىء بالصلب. فلا قيامة بدون صليب ولا صليب بدون التضحية والمحبة. على الصليب قدم السيد المسيح نفسه ذبيحة من أجل خطايانا، لذلك أصبحت علامة الصليب الإشارة المشتركة بين جميع المؤمنين كرمز للخلاص. عندما بسط الرب يسوع يديه على الصليب، لم يعد الصليب رمزا للخزي والعار والموت، بل صار نبعا للحياة الأبدية. بالصليب اختفت اللعنة وبادت الخطيئة، وتقهقر الشيطان، وانحلت رباطات الجحيم. بالصليب حصلت المصالحة بين الله والإنسان، لأن المصلوب عليه قهر مملكة الجحيم، وحرر البشر من سلطان الموت، وأعتقهم من عبودية الخطيئة. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: الصليب هدم العداوة بين الله والناس، صنع السلام، جعل الأرض سماء… الصليب رمز المحبة الإلهية لأن الله هكذا أحب العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية (يو 3: 16)”.
ورأى أن “أعياد الصليب يجب أن تكون للمؤمن فرصة للتأمل في موت المخلص كفارة عن خطايانا، وفي الصلة بين الصليب والمحبة. كما يجب أن تكون مناسبة للتأمل في حياتنا وفي ضرورة أن نردد مع بولس الرسول: أما أنا فحاشا لي أن أفتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح الذي به صلب العالم لي وأنا صلبت للعالم”.
وتابع: “اليوم هو الأحد الذي يلي عيد رفع الصليب الكريم المحيي. يعلمنا الرب يسوع في إنجيل اليوم أن الخلاص لا يأتي بالراحة بل بالكد وحمل الصليب، فيقول: من أراد أن يتبعني فليكفر بنفسه ويحمل صليبه ويتبعني، لأن من أراد أن يخلص نفسه يهلكها، ومن أهلك نفسه من أجلي ومن أجل الإنجيل يخلصها. إلا أن التعب الذي يتحدث عنه الرب هنا ليس تعبا وجهدا في سبيل ربح مادي، بل من أجل ربح ملكوت السماوات: فإنه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟. أما القسم الثاني من إنجيل اليوم، فيحملنا مسؤولية الشهادة للرب في هذا العالم، بلا خجل، لئلا يستحي بنا ابن البشر في ملكوته. المسيح، قبل أن يصل إلى الآلام والصلب، وصف حياة تلاميذه مستخدما صورة المحكوم عليه، الذي يحمل صليبه. من يريد أن يتبعه عليه أن ينكر نفسه، الأمر الذي يعني أن ينكر جذر كل الأهواء، أي الأنانية، ثم أن يحمل صليبه، أي أن يجاهد من أجل حفظ وصايا المسيح. إتباع المسيح يعني الإقتداء بحياته، واللحاق به إلى جلجلة المحبة. الصليب هو المحبة التي أصبحت ذبيحة ليعيش العالم حياة حقيقية، وفيما يتحرر الإنسان من أغلال الأنانية وحب الذات، يتقدم في معرفة المسيح ويرى بوضوح جحود العالم، عندئذ يعيش مأساة الكون شخصيا، فينوح ويصلي من أجل العالم، ويحمل صليب إخوته الذين لا يفصلهم عن نفسه”.
ولفت إلى أن “كتابات القديسين وسير حياتهم تصف خبرة الذين يتبعون المسيح بإخلاص، وتبين كيف يتوجب على الإنسان أن يأخذ صليبه ويتبع المسيح. حمل الصليب هو طريقة حياة المؤمنين الحقيقيين جميعا، بغض النظر عن أنماط حياتهم الخارجية. فحياة الصليب ليست حكرا على الرهبان أو النساك، بل هي أيضا سمة أصحاب المهن وأرباب العائلات، والذين لديهم مراكز مسؤولية ويمارسون السلطة في المجتمع، لأن المسيحي الحقيقي يعيش مسيحيته أينما وجد، ويمارس الفضائل في كل وقت”.
وقال: “مجتمعنا يعاني كثيرا من جهة العائلة، إذ يكون صليب العائلة ثقيلا على البعض فلا يستطيعون حمله، لأنهم يكونون مجبرين على نبذ الأنا، ويختارون تركه وهدم الشركة العائلية بحثا عن الراحة الشخصية. كل إنسان هو شخص فريد لا يتكرر وجوده، ولديه تاريخه الخاص وتراثه. اجتماع شخصين بالزواج هو تصادم عضوي لتراثين مختلفين. عادة، عندما يفقد الزوجان حماستهما الخارجية الأولى، ويعبر الزواج إلى مرحلة أعمق، تظهر خلافات وانشقاقات تتطلب نضوجا كبيرا ليتخطياها. الكنيسة، من خلال نعمة سر الزواج وتعليمها، المعبر عنهما في طقس الزواج، تمنح الزوجين مساعدة جوهرية. لا تفحص الأمور وكأن كلا من الزوجين هو مركز كل شيء، لذلك تعطي أكثر من مخرج حيث يرى المنطق البشري مأزقا. الكنيسة تشق العلاقة الثنائية للزوجين وتجعلها ثلاثية، لأن المصلحة الشخصية دائما تتدخل بين الإثنين، لكن عندما تضفي الكنيسة بعدا روحيا على العلاقة بين الزوجين، عندئذ تأخذ العلاقة مضمونا آخر، فتكتسب اتجاها روحيا. لا يبقى مرجع ارتباط الاثنين في شخصيهما ولا في علاقتهما، بل في الشركة مع الكنيسة، وسر الشكر أي مع المسيح. في سر الزواج، تتقوى علاقة الزوجين ضمن الشركة مع الكنيسة، ويكون هدفها كمال الزوجين في المسيح، وتجاوز التركيز الشخصي، والتمرس في المحبة. الزواج ليس أمرا سهلا ولا مجرد عقد قانوني، بل هو نير وسر عظيم، يتطلب صلبا، ويحتاج حمل الصليب بقوة نعمة الله. وإذا كانت علاقة الزوجين الحقيقية صليبا، فالصليب يصير أثقل عند ولادة الأولاد”.
أضاف: “إذا أراد الأهل أن يكون أبناؤهم فاضلين، عليهم أن يدركوا أن الأولاد يتمثلون بسيرة حياتهم. المحبة والصدق أساسيان في التربية، والصليب الذي يحمله الأهل في التربية هو التضحية وإقران القول بالفعل، على حسب قول الرب: من عمل وعلم يدعى عظيما في ملكوت السماوات (مت 5: 19). على الأهل أن يعرفوا أن الأولاد ليسوا ملكا لهم، بل هم أشخاص أحرار، يخصون الله، وينبغي أن ينموا علاقتهم الشخصية به، كما أنهم يخصون المجتمع والكنيسة، والأهل مؤتمنون عليهم. لذا، مهمة الأهل هي مساعدة الأولاد في المحافظة على صورة الله فيهم طاهرة، وفي التقدم إلى ما هو على مثال الله. أيضا، على الأهل أن يعطوا الأولاد إمكانية اكتساب علاقات صحيحة بالكنيسة، وهذا يحصل إن عاشوا هم أولا في الكنيسة بشكل صحيح. اليوم، جل ما يسمعه الأولاد في المنازل هو الكلام البطال النابع من خبرات قد لا تكون إيجابية، ومن الكبرياء والحقد والحسد وما شابه. فبدلا من العيش بعيدا من الفضائل، يمكن للأهل أن يحملوا صليب التواضع ويصلوا بخشوع جاعلين من بيتهم كنيسة صغيرة. الأولاد ليسوا أصناما أو ملكا لأحد. البعض يجعلون من أبنائهم مركزا لحياتهم، إلى درجة الإحاطة بهم بشكل مبالغ به، الأمر الذي يمنع نضوجهم الروحي والنفسي. مرارا كثيرة يأتي هذا نتيجة فشل الزوجين في علاقتهما، فيتحولان نحو الأولاد لملء فراغهما العاطفي، وهذا يؤذي صحة الأولاد النفسية. إذا، العائلة يجب أن تكون محلا للشهادة الطوعية، وصلبا لحب الذات، وعيشا لإنجيل السلام. حينئذ تصبح مسكنا للمحبة والحرية والرحمة والتفاني والنمو الطبيعي. عليها أن تكون طريقا إلى المشاركة في صليب المسيح الذي منه ينبع الغفران والقيامة للعالم أجمع”.
وتابع: “مثلما هي العائلة، كذلك هو الوطن. ما نشهده في بلدنا هو طغيان حب الأنا، إذ إن كل طرف يريد مصلحته الشخصية فقط، على حساب عائلة الوطن. هذا ما جعل من العلاقة العائلية، بين الشعب والمسؤولين علاقة فاشلة، فاقدة للمحبة، مليئة بالكراهية والنزاعات. كل ما ينطبق على العائلة الصغيرة ينطبق على الكبيرة، وخصوصا من جهة حضور الله في العلاقات، والحرية التي يجب أن يتحلى بها أبناء الشعب الذي لا يعيش حاليا سوى الإحباط، والشعور بفقد الكرامة. عندما يكون الله حاضرا في حياة جميع مكونات الوطن من زعماء ومسؤولين ومواطنين، وعندما تسود المحبة والتواضع والصدق والوفاء للوطن، وتعم الفضائل يصبح البلد فردوسا أرضيا. لذا، ندعو الجميع إلى العودة إلى الله، عندئذ يستقيم عمل الجميع وننجو جميعا من الهلاك”.
وختم عوده: “في النهاية، على المسيحي أن يكون جاهزا دوما لحمل الصليب، في كل أعماله، جاهزا للموت المحيي الذي يدفع الإنسان إلى الكرامة الممنوحة من الله، وألا يخجل من أن يعيش مسيحيته أينما حل، لأن الشهادة للرب وإنجيله تحتاج إلى جرأة على مثال الأنبياء والرسل والشهداء والمعترفين، الذين لم يهابوا موتا ولا أحدا أو شيئا، بل كان جل هدفهم أن يخلصوا البشر من الشيطان المتربص بهم”.