كتب السفير مسعود المعلوف في “الجمهورية”:
في الخامس عشر من شهر أيلول 2020، تمّ التوقيع في البيت الأبيض على ما عُرف باتفاقيات أبراهام، التي أدّت الى تطبيع العلاقات بين كل من الإمارات العربية المتحدة ومملكة البحرين من جهة، وإسرائيل من جهة ثانية، بحضور الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ووزيري خارجية الإمارات والبحرين. وقد لحق ذلك، بعد فترة قصيرة، تطبيع العلاقات بين إسرائيل والسودان، ثم بين إسرائيل والمملكة المغربية، بحيث أصبح عدد الدول التي لها علاقات ديبلوماسية مع إسرائيل 6 دول، إذا ما أضفنا مصر (1979) والأردن (1994).
مع أنّ إسرائيل كانت دائماً، منذ حرب 1967، من أولى أولويات سياسة الولايات المتحدة تجاه الشرق الأوسط، إلاّ أنّ الرئيس ترامب ذهب أبعد بكثير مما قدّم أي من أسلافه لإسرائيل، إذ قام بالإعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل عاصمة بلاده إليها، كما اعترف بأنّ الأراضي الفلسطينية المحتلة وهضبة الجولان هي أراضٍ إسرائيلية، وقطع المساعدات الأميركية عن الفلسطينيين وعن منظمة الأونروا، وأقفل مكتب فلسطين في واشنطن، وذلك انطلاقاً من علاقته الخاصة القوية مع نتنياهو، وبسبب تأثير صهره اليهودي جارد كوشنر وابنته إيفانكا، التي اعتنقت الديانة اليهودية بعد زواجها من كوشنر، واعتقاداً منه بأنّ دعم إسرائيل بهذه الطريقة سيحمل اليهود الأميركيين، الذين ينتمي أكثر من 70 بالماية منهم الى الحزب الديمقراطي، على التصويت لصالحه لإعادة انتخابه في تشرين الثاني 2020.
لقد قام جارد كوشنر، بصفته كبير المستشارين للرئيس ترامب والمكلّف بملف السلام في الشرق الأوسط، بمفاوضات حثيثة مع الإمارات والبحرين للوصول الى هذه الإتفاقيات، التي سُمّيت «اتفاقيات أبراهام» لإعطائها بعداً دينياً، باعتبار انّ اليهود والمسلمين هم من أبناء ابراهيم، فمن الطبيعي أن يعيشوا جنباً الى جنب بسلام وتعاون. وقد حصلت كل من الدول العربية الأربع التي وافقت على التطبيع مع إسرائيل، على مكافأة من الولايات المتحدة، وصفها أخصام التطبيع بالرشوة. فالإمارات حصلت على الموافقة لشراء مقاتلات أميركية جوية من طراز «اف 35»، التي تُعتبر من أحدث الطائرات الحربية، والسودان حصلت على مساعدات مالية وُرفع اسمها عن لائحة الإرهاب، كما وافقت إدارة ترامب على اعتبار الصحراء الغربية أرضاً مغربية، وتعززت علاقات البحرين مع الولايات المتحدة في مواجهة إيران.
لا شك أنّ اسرائيل حققت انتصاراً ملموساً في عقد هذه الإتفاقيات على أكثر من صعيد، كما أنّه كان لهذه الإتفاقيات نتائج مختلفة للدول الموقّعة عليها.
1- إسرائيل: سجّلت انتصاراً ديبلوماسياً كبيراً في سياستها الخارجية، عبر تأمين انفتاح واضح علني لها على الخليج العربي شرقاً من جهة، وعلى المغرب العربي غرباً من جهة ثانية. كذلك أحرزت ربحاً اقتصادياً، إذ أمّنت أسواقاً إضافية لصادراتها الزراعية والصناعية وخصوصاً في مجال التكنولوجيا، كونها تُعتبر من أكثر الدول تقدماً في هذا المجال. على الصعيد الإقتصادي أيضاً، يتيح التطبيع مع دول الخليج لإسرائيل استثمارات ضخمة في شتى المجالات من قِبل هذه الدول البترولية الغنية، والتي تبحث عن فرص استثمارية في مناطق مختلفة من العالم. كما تمّ التوقيع على عدد من مذكرات التفاهم الثنائية في مجالات الطيران، حيث بدأت الرحلات الجوية المنتظمة، وكذلك الإعفاء المتبادل من تأشيرات الدخول مع دولة الإمارات، ما أدّى الى سياحة إماراتية ملموسة، تدرّ على إسرائيل مداخيل محترمة.
أما على الصعيد السياسي، فقد أدّى التطبيع مع إسرائيل الى خروج الدول المطبّعة من الإتفاق العربي، الذي تجسّد في قمة بيروت عام 2002، والذي كان يقضي بالإعتراف بإسرائيل، وإقامة علاقات طبيعية معها بعد انسحابها من الأراضي المحتلة. كما أنّ إسرائيل تخطّت مبدأ «الأرض مقابل السلام»، الذي كان الشعار العربي القاضي بالقبول بالسلام مع اسرائيل لقاء استرجاع الأراضي المغتصبة بالقوة، وهي تسعى الآن الى فرض مبدأ «العلاقات الإقتصادية مقابل السلام».
تمكنت كذلك إسرائيل، بفضل اتفاقيات التطبيع مع بعض الدول العربية، من إضعاف القضية الفلسطينية وحرمان المقاومة من الإعتماد على مساعدات مادية ملموسة من دول الخليج، وانخفاض مستوى التأييد العربي بعض الشيء لهذه القضية، التي كان هنالك توافق عربي شبه عام حولها.
2- الإمارات العربية المتحدة: بالإضافة الى صفقة طائرات «اف 35»، وقّعت الإمارات مع إسرائيل عشرات الإتفاقيات ومذكرات تفاهم في مجالات كثيرة، خصوصاً في مجالات التعاون التكنولوجي والإقتصادي والثقافي والسياحي، حيث تؤم دبي أعداد متزايدة من الإسرائيليين الذين يستفيدون من الإعفاء من تأشيرات الدخول. لقد وصل التبادل التجاري مع إسرائيل الى مئات الملايين من الدولارات في خلال سنة واحدة على التطبيع، ومن المتوقع أن يصل هذا الرقم الى تريليون دولار بعد 10 سنوات، حسب ما صرّح به سفير الإمارات في واشنطن.
إنّ أحد المجالات الذي تأمل الإمارات تطوير علاقاتها مع إسرائيل فيه هو مجال التكنولوجيا، وخصوصاً في ما يتعلق بالفضاء. إذ للإمارات اهتمامات وطموحات واضحة للتقدّم في هذا المجال، وترى أنّ تعاونها مع إسرائيل يساعدها كثيراً.
3- مملكة البحرين: وقّعت عدداً من إتفاقيات التعاون الإقتصادية والسياسية مع إسرائيل، وفي الثامن من شهر آب المنصرم، وقّعت الدولتان اتفاقاً لمواجهة إيران. ويبدو أنّ ما دفع البحرين الى الإنضمام الى اتفاقيات التطبيع مباشرة بعد الإمارات، كان سعيها الى التقرّب أكثر من الولايات المتحدة، والحصول على دعم عسكري إسرائيلي لمواجهة التمدّد الإيراني في المنطقة، وخصوصاً في الخليج، والذي ترى فيه خطراً مباشراً عليها. هذا بالإضافة الى وقف الحملات الإعلامية ضدّها، في ما يعود الى مسائل لها علاقة بقمع الحرّيات وعدم احترام حقوق الإنسان.
4- المملكة المغربية: يهمّها كثيراً السيطرة على الصحراء الغربية والإنتهاء من ثورة البوليساريو الإستقلالية في هذه المنطقة. وقد استغلت إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب هذه الحاجة لدى المملكة المغربية، لتغريها بالإعتراف بالصحراء الغربية كجزء من الأراضي المغربية لقاء تطبيع المغرب علاقاته مع إسرائيل، وهذا ما حصل بالفعل. وقد تمّ توقيع اتفاقيات ثنائية، منها اتفاق جوي، باشرت بموجبه شركة طيران إسرائيلية تسيير رحلات تجارية بين تل أبيب والرباط. جدير بالإشارة هنا، ألى أنّ المغرب فيه جالية يهودية كبرى تضمّ حوالى ثلاثة آلاف يهودي، كما يوجد في اسرائيل مئات آلاف اليهود من أصول مغربية.
5- السودان: كان على لائحة الدول الراعية للإرهاب منذ أيام أسامة بن لادن ونشاطاته الإرهابية، إلّا أنّ ترامب وعد السودان بحذفه من هذه اللائحة وتقديم مساعدات مالية كانت محرّمة عليه، طالما أنّه موجود على اللائحة. وتلبية للحاجة وللرغبة في الحصول على مساعدات مالية ولحذفه من لائحة الدول الراعية للإرهاب، مضى السودان في طريق التطبيع مع إسرائيل، وذلك رغم معارضة شعبية داخلية قوية لهذا التحوّل.
اتفاقيات التطبيع هذه تمّت، كما ذكرنا أعلاه، في عهد الرئيس ترامب. ومع أنّ الرئيس بايدن أدخل بعض التعديلات على سياسة بلاده تجاه القضية الفلسطينية، مثل الإعتراف بحلّ الدولتين وإعادة تقديم المساعدات الى الفلسطينيين وتجديد الحوار معهم، إلّا أنّه لم ولن يغيّر مسألة الإعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ومسيرة التطبيع.
في الذكرى السنوية الأولى لتوقيع اتفاقيات التطبيع، أكّد وزير الخارجية أنتوني بلينكن، أنّ إدارة الرئيس بايدن ماضية في هذا الإتجاه، وهي ستسعى الى تشجيع المزيد من الدول العربية على تطبيع علاقاتها مع إسرائيل. وجدير بالإشارة هنا الى أنّ الإدارة الأميركية الحالية تفضّل استعمال عبارة «اتفاقيات التطبيع» بدل عبارة «اتفاقيات ابراهام».
أقامت منظمات ومعاهد دراسات أميركية مناسبات مختلفة في الأيام القليلة الماضية احتفاء بذكرى التطبيع، وقد شارك في هذه المناسبات سفراء الدول العربية المعنية وإسرائيل، حيث جرت الإشادة بهذه الخطوة، كما تمّ التأكيد على الرغبة القوية في الإستمرار في هذا التوجّه، علما أنّ سفير الإمارات، في إحدى هذه المناسبات، قال انّ هذه الإتفاقيات من شأنها ان تفتح قنوات تواصل بين دول الخليج العربي وإسرائيل، مؤكّداً، دون أية أدلة، انّه «لولا حصول هذه الإتفاقيات، لما كان هنالك احتمال حصول حديث عن حلّ الدولتين».
وفي هذه المناسبة أيضاً، عقد وزير الخارجية بلينكن اجتماعاً افتراضياً مع وزراء خارجية كل من اسرائيل والإمارات والبحرين والمغرب، حيث شدّدوا جميعهم على أهمية هذه الإتفاقيات وفوائدها على شعوب المنطقة، وعلى الرغبة في تعميق العلاقات بين الدول العربية المطبّعة وإسرائيل. كما دعا بلينكن دولاً عربية أخرى الى الإعتراف بإسرائيل وتطبيع علاقاتها معها. وأوضح في الوقت نفسه، انّ إدارة الرئيس بايدن ستسعى الى تحسين ظروف الفلسطينيين.
في مقابل هذا التفاؤل الذي يُظهره المسؤولون الأميركيون وممثلو الدول العربية المعنية بالتطبيع، يبدو أنّ استطلاعاً للرأي أُجري مع مجموعة كبيرة من الأكاديميين والخبراء في مسائل الشرق الأوسط، لمناسبة الذكرى السنوية الأولى لهذه الإتفاقيات، وقد أظهر هذا الإستطلاع، أنّ الثلثين من الأكاديميين والخبراء الذين يتابعون قضايا وتطورات الشرق الأوسط، يرون أنّ معاملة إسرائيل للفلسطينيين هي مشابهة لنظام الفصل العنصري (أبارتهايد)، ما يدلّ الى انّ إسرائيل لم تحسن تعاطيها مع الفلسطينيين نتيجة تقاربها مع بعض الدول العربية، كما أنّ الدول المطبّعة لم تتمكن من الضغط على إسرائيل لوقف حربها على غزة في شهر أيار من هذه السنة، بل انّ الولايات المتحدة هي التي تمكنت من وضع حدّ لهذه الحرب عبر تحقيق وقف لإطلاق النار.
كان بعض المراقبين يعتقدون أنّ تطبيع إسرائيل لعلاقاتها مع بعض الدول العربية يمكن أن يؤدي، بالنتيجة، الى اضطرار إسرائيل الى تليين مواقفها تجاه الفلسطينيين، خشية أن تتوقف عملية التطبيع، أو أن تنسحب منها الدول المطبّعة في حال عدم حصول تقدّم في طريق الحل، إلّا أنّ أياً من ذلك لم يحصل. وحسب تصاريح المسؤولين في الدول المطبّعة لمناسبة الذكرى الأولى للتطبيع، هنالك تأكيد على المضي في هذا الإتجاه، مع تأكيد أميركي على تشجيع دول عربية أخرى على الإنضمام الى مسيرة التطبيع، مما لا يبشّر بالخير للقضية الفلسطينية.
جدير بالإشارة في الختام، الى أنّ العلاقات الرسمية القائمة بين مصر وإسرائيل منذ عام 1979 لم تنعكس بعد على كافة طبقات الشعب المصري، الذي ما زال متضامناً مع الفلسطينيين، ولم يحصل حتى الآن أي تقدّم في العلاقات بين الشعب المصري والشعب الإسرائيلي، بالرغم من مرور 42 سنة على اتفاقات كامب دايفيد. وإذا كانت إسرائيل تعتقد أنّ الشعب العربي عموماً سيتبع حكوماته في مسار التطبيع، فإنّ الوضع المصري خير دليل على عكس ذلك. وعلى إسرائيل أن تعي أنّ مفتاح الحل للقضية برمتها يكمن في إعطاء الشعب الفلسطيني حقوقه الطبيعية، عبر القبول بمقرّرات قمة بيروت، التي سبق ووافقت عليها جميع الدول العربية، بما فيها تلك التي وقّعت على اتفاقيات التطبيع.