كتبت زينة عبود في نداء الوطن:
يمر خبر رمي رضيع ميت في مستوعب قمامة، أو خبر وضع مولود حديثاً في حالٍ صحية حرجة أمام مسجد أو كنيسة أو جمعية كأي خبر متفرّقات في نشرة أخبار ملأى بالمآسي والنق والأزمات التي تحاصر اللبنانيين وتقبض على أنفاسهم. أين أصبحنا؟ في أي قعر إنساني أو لاإنساني؟
لا عقل ولا قلب يستوعبان أن أماًّ قد ترمي فلذة كبدها على قارعة الطريق تاركة إياه يصارع بين الحياة والموت لأي سبب كان… هذه الفعلة المدانة الى أقصى الحدود، يصعب لا بل يستحيل تبريرها أو تفهّمها، ومن المعروف ان الأم تقطع عن نفسها اللقمة كي تشبع معدة طفلها الخاوية… والسؤال الكبير ما الذي يدفع أمّاً الى التخلّي عن طفل نما في أحشائها طيلة تسعة أشهر وتشاركت معه نهاراتها ولياليها؟
الإجابة محصورة بين خيارين لا ثالث لهما إما أنها تتخلّص من فضيحة أخلاقية ستلاحقها طيلة حياتها، أو أنها تتخلّص من عبء اقتصادي لا قدرة لديها على تكبّده.
تعددت الأسباب…
في زمن الانهيار الشامل تكرّرت هذه الأفعال الجرمية المؤلمة وكأن مسلسل رمي الأطفال امتدّ على حلقات متتالية في الآونة الأخيرة، إذ تم العثور في الأول من أيلول الحالي، على طفل في شهره الأول تخلّت عنه والدته بكل بساطة ووضعته على درج مدخل جامع البحر في مدينة صيدا… وفي اليوم التالي، وُجدت طفلة في الخامسة من عمرها مصابة بكسور في ساقيها وفي حوضها، مرمية على مقربة من حاوية للنفايات على جانب طريق عام بلدة العقيبة الساحلية وبحال يُرثى لها…
وفي الثالث من أيلول، ملأ بكاء طفلة حديثة الولادة أروقة مسجد الماروق في ضهور المنية حيث كانت تتضوّر جوعاً.
أيضاً تحت جسر برج حمود استفاق الأهالي في السادس والعشرين من آب الماضي، على خبر وجود رضيعة لا يتعدّى عمرها أياماً قليلة، مرمية في أحد مستوعبات النفايات… وقبل ذاك التاريخ بأسابيع، تم العثور على طفل رضيع مرمي أمام مسجد صلاح الدين في البداوي – طرابلس.
وقبل الـ “قبل”، عُثر على طفل في عامه الثالث تائه على قارعة الطريق في محلة المناقع في عرسال تخلّى عنه أهله بحجة الضائقة الاقتصادية…
كل هؤلاء الأطفال الأبرياء فقدوا الحضن الطبيعي، ودفء العائلة المفترض، وبات من كُتِبت له الحياة، في أحضان مراجع وجهات مختصة بشؤون الطفولة عسى ان يجدوا هناك موئلاً للحنان والعطف والاهتمام.
التخلّي او الإجهاض؟
في جمعية “سعادة السما” خمسون طفلاً من مختلف الطوائف والجنسيات اللبنانية، السورية، الاثيوبية، والبنغلادشية؛ وجميعهم يلقون الرعاية الصحية والاجتماعية والتربوية اللازمة تحت إشراف مؤسس الجمعية الأب مجدي علاوي الذي يؤكد ان ظاهرة تخلّي الاهل عن أطفالهم لا تزال في بداياتها والأعداد مرشحة الى الازدياد مع تفاقم الأوضاع الاقتصادية وغلاء المعيشة الذي فاق كل التوقعات وما عاد ربّ البيت قادراً على تأمين قوت أولاده وهو بالكاد اليوم يؤمّن إيجار المنزل.
ويطلب الأب علاوي عدم إدانة الأهل الذين يتخلّون عن أولادهم ويقول “على الأقلّ هذه الأم لم تجهض طفلها وتحكم عليه بالإعدام. لم ترتكب جريمة بل قامت بتسليمه الى جمعية وأشخاص سيؤمّنون له الطعام والطبابة والتعليم بمحبة”. اما عن الأطفال الذين يُعثر عليهم مرميين في مستوعبات النفايات وعلى قارعات الطرق حيث حياتهم تكون مهدّدة بالخطر، فيجزم الأب علاوي أن الأم لا تكون على علم بما يجري بحيث يكون هناك طرف ثالث في القصة يتدخّل لطمس علاقة جنسية حصلت خارج مؤسسة الزواج على الأرجح “أنا أكيد ان لا أم ولا أب يقبل بهكذا فعلة”.
من دون إسقاط صفة اللاإنسانية لدى أمّ كهذه، نعترف ونقرّ بأن لبنان يعاني من أزمة ثقافة اجتماعية كبرى بحيث يعدّ كلُّ طفل وليد علاقة غير شرعية لقيطاً في مجتمع محافظ لا يتسامح لا مع الأم (وجلّ من لا يخطئ) ولا مع الطفل البريء الذي يُحكم عليه تلقائياً على انه “ابن حرام… لقيط” ليكون مصيره النبذ من قبل المجتمع الى حد الاحتقار في الكثير من الأحيان.
الواقعة وقعت… ماذا بعد؟
الموضوع أكبر من مجرّد أمّ تخلّت عن طفلها ويا للهول كيف تمكّنت من القيام بذلك؟ يسأل الإختصاصي في علم النفس والتربية والإرشاد أحمد عويني “متى حملت فتاة ما بطريقة غير شرعية، بغض النظر عن السبب، تلقائياً سيضعها مجتمعنا المتخلّف في موقع محرج جدا ولن يتقبّلها أحد أو يساندها بل على العكس ستُرجم على خطيئتها بشراسة وفي بعض المناطق الريفية حيث لا تزال جرائم الشرف قائمة، ستكون حياتها معرّضة للخطر، فما هي خيارات هذه الحامل؟ الواقعة وقعت وهناك طفلٌ ينمو بداخلها ما المطلوب؟ هل الإجهاض وقتل الجنين أم منحه الحياة بعيداً عن أمّه؟”
أسئلة كثيرة ستراود ذهن والدة الطفل غير الشرعي الذي قد يكون نتيجة خطيئة ارتكبتها (بالمفهوم الديني) أو ثمرة اغتصاب، وفي الحالين النتيجة واحدة هناك طفل غير شرعي وأم عزباء مرفوضان من قبل المجتمع.. والأسئلة تكثر “ماذا سيقول عني الناس؟ كيف سأتدبّر أمر الطفل؟ أي كنية وهوية وجنسية سيحمل؟ ويضيف عويني ان مصير الطفل البريء ان يكبر مكتوم القيد من دون اي حقوق مدنية في ظل نظام طائفي متخلّف قاسٍ.
وإذا ما وُضعت في الميزان غريزة الأمومة والخوف من نظرة المجتمع فإن كفّة التحدي الاجتماعي ستغلب على الأكيد، لذلك نرى الأطفال نتاج العلاقات من خارج مؤسسة الزواج مرميّين في الشارع. وهؤلاء الأطفال مصيرهم اللجوء الى المؤسسات التي تعنى بالأيتام.
تشريع التبني هو الحلّ
كل طفل يترعرع في دار للأيتام هو مشروع إنسان مشلّع من الداخل ومجروح نفسياً، هدفه في الحياة عندما يكبر إثبات نفسه أمام الناس والمجتمع على أنه إنسان جدير بالاحترام، يؤكد عويني، مع العلم أن كل شخص يتفاعل مع واقعه وحقيقة وجوده بشكل مختلف تبعاً لبنيته النفسية الخاصة وبالإجمال البنية النفسية لدى الشباب تكون أقوى من الفتيات الحساسات بطبيعتهنّ، ولكن عموماً أطفال دور الأيتام ينمون مع فكرة انهم مرفوضون ومنبوذون اجتماعياً ما قد يدفع نسبة كبيرة منهم الى الانجرار وراء المخدرات او الجريمة وغيرها…
ويؤكد عويني أننا سنبقى نسمع اخباراً عن أطفال رضّع مرميين في الشارع وعلى أبواب دور العبادة طالما نعيش في مجتمع ديني غير مدني، لأن الطريقة الوحيدة لحلّ هذا الموضوع الإنساني الاجتماعي الكبير تكمن بتغيير النظام وتحويله الى نظام مدني يتيح أمام أي فتاة وامرأة تحمل عن طريق الخطأ، أياً كانت أسباب هذا الخطأ، خيار وضع طفلها لدى مؤسسة تكون معنيّة بعرض الأطفال المتخلّى عنهم للعائلات الراغبة بالتبّني بما يؤمّن لهذا الطفل حياة كريمة وآمنة في كنف أسرة طبيعية مؤلّفة من أم وأب يحبّانه ويربّيانه بالشكل المناسب ويمنحانه إسماً وكرامة ووجوداً.
لكن للأسف، يتابع عويني، ان مجتمعنا لا يتقبّل فكرة التبنّي لأسباب دينية بحيث لا آلية لتكفّل عائلة معينة بطفل يتيم بمعنى ان يكون للطفل اليتيم أهل أو أمّ بديلة ضمن شروط معينة مقابل بدل مادي، على غرار العديد من الدول كالولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا.
ومن تجربة شخصية يقول عويني إن موضوع التبنّي في لبنان يتحوّل الى تجارة لدى الديانة المسيحية التي تسمح بالتبني قولاً ولكن عملياً على الأرض لا تسهيلات بل هناك بطء وكأنه متعمّد في المعاملات ما يتطلّب من الراغب بالتبني دفع مبالغ مالية سخيّة (تحت مسمّى التبرعات) واللجوء الى الرشاوى والوساطات، بينما الديانة الإسلامية لا تسمح بالتبني أساساً وتشرّع ما يسمّى بالكفالة بمعنى التبرع لصالح أطفال الميتم وليس التكفّل بطفل معيّن بمعنى إيلائه اهتماماً خاصاً وعاطفة وتوفير عائلة له، وبالتالي فإن هذا التبرّع يندرج أكثر ضمن الفروض والواجبات الدينية كالصوم والصلاة.
وإذ يؤكد عويني أن الحياة في دور الأيتام صعبة جداً بحيث سيخوض الطفل تجارب صعبة ومأسوية بالإجمال، يشدد على ان التبني هو حبل خلاص هؤلاء الأطفال وتأمين جو عائلي دافئ لهم ضمن أسرة قد تكون محرومة من الإنجاب لأسباب بيولوجية ربّما.
لو أن المجتمع اللبناني يتقبّل فكرة الإنسان من دون العودة الى جذوره وأصله وفصله لكنّا بألف خير ولكن للأسف هناك حاجة ماسة وطارئة الى حملات توعية مكثّفة لتنقية الثقافة المجتمعية الجاهلة والمتخلّفة تجاه الطفل البريء بالدرجة الأولى والأم التي قد تكون في العديد من الأحيان ضحيّة هي الأخرى.
مافيا الإتجار بالبشر تتحرك؟!
“الآباء يأكلون الحصرم والأطفال يضرسون” هذا بالضبط ما حصل مع الأب السوري الذي حاول بيع ابنه ابن العامين، لامرأة سورية ايضاً بالتواطؤ مع اربعة لبنانيين آخرين لولا إحباط عملية البيع في جونية من قبل الأجهزة الأمنية اللبنانية يوم الرابع عشر من الشهر الجاري.
بحجة الأوضاع الاقتصادية المأزومة قرّر هذا الوالد الإتجار بابنه وكأنه قطعة خردة ما عاد بحاجة لها فما الضرر من بيعها مقابل حفنة من الدولارات… فهل تتكرّر هذه الحوادث نتيجة الظروف المعيشية القاهرة؟
لبنان موقّع على قوانين ومعاهدات دولية تتعلق بموضوع الإتجار بالبشر وبالفعل لم تسجّل حوادث مماثلة في السنوات الأخيرة، إلا ان رئيس لجنة حقوق الإنسان النيابية ميشال موسى يخشى من بعض التفلّتات المؤسفة في ظل الفوضى الاجتماعية الحاصلة هذه الأيام رغم ان الموضوع قيد المتابعة ويشدد على تطبيق القوانين المرعية الإجراء خصوصاً ان هذا الموضوع له تداعيات دولية على لبنان. واذ يؤكد ان الأجهزة الأمنية تقوم بالإجراءات المناسبة رأى ان المطلوب من القضاء اليوم المزيد من التيقّظ لأن احتمال تكرار هذا النوع من الممارسات، من قبل مافيات الإتجار بالبشر، قائمٌ طالما الأزمة الاقتصادية مستعرة في البلاد، وقال “هناك أزمة أخلاق يجب الضرب بيد من حديد لوقفها وإنزال أشد العقوبات بحق المرتكبين”.