كتب جورج شاهين في “الجمهورية”:
اياً كانت الوعود التي قُطعت والظروف التي يمكن ان تتحكّم بها، فإنّ الحديث عن الانتخابات النيابية المقبلة في الربيع المقبل سيبقى موعداً مرتقباً. فلا يمكن اعتبار انّ التصريحات والمواقف التي سُجّلت انّها انطلقت من خلفية واحدة. فالفرز بين الراغبين بإنجاز هذا الاستحقاق او تأجيله ليس صعباً، وهو امر يخضع للنقاش. وعليه، ما الذي يدفع الى القول انّها وحتى اليوم ما زالت سمكاً في البحر؟
لا يمكن أي من المراقبين المحليين والديبلوماسيين في لبنان الفصل النهائي بين ما يمكن البناء عليه عند الفرز الواجب بين الرغبات والنيات من جهة والمصالح من جهة أخرى. فشعرة معاوية التي تفصل بين الحالتين لا يمكن مشاهدتها بالعين المجرّدة من دون التنكّر او إهمال وجودها بقدرة قادر. فقوى الأمر الواقع نجحت اكثر من مرة في زرعها، فتغيّرت امور كثيرة في لبنان انقلبت فيها موازين القوى بين لحظة وأخرى. والأمثلة على ذلك في العقدين الماضيين لا تُحصى، وانّ الخلاف ما زال قائماً عند تقدير الكلفة التي دُفعت من رصيد ما سُمّي دولة المؤسسات، وما تسببت به من خسائر دفع ثمنها اللبنانيون غالياً، وليس ما نشهده منذ عامين سوى واحدة من الفواتير المتأخّرة المؤجّل دفعها، كنتيجة حتمية لتلك المراحل التي تشعّبت وتوسعّت تردّداتها، الى ان شملت مختلف وجوه حياة اللبنانيين.
على هذه القاعدة التي تميّز الحياة السياسية في لبنان، يُبنى كثير من السيناريوهات التي تحتمل كثيراً من الجدل، ومنها تلك المتصلة بإمكان اجراء الانتخابات النيابية المقبلة. فقد بُنيت رهانات داخلية وخارجية عليها من اجل تصويب بوصلة الحياة السياسية في لبنان. وقد تحوّلت بنظر كثر محطة اساسية لا بدّ منها، من اجل ان تكون الحدّ الفاصل بين ما يجري اليوم بكل مظاهره واسبابه، وما يمكن يكون عليه الوضع، وسط الحديث عن متغيّرات مطلوبة لعلها تشكّل منفذاً الى التغيير المنشود على اكثر من مستوى.
وعليه، فإنّ البحث في التحضيرات المطلوبة لإجراء هذه الانتخابات يستأهل التوقف عند كثير من المحطات التي يجب عبورها على اكثر من مستوى حكومي وتشريعي، وهو ما يفرض وجود ورشة تشريعية وقانونية وإدارية لا بدّ منها. فالقانون المعتمد حتى اليوم يحتاج الى تعديلات اساسية لا يمكن تجاهلها، فإعادة النظر في كثير من المِهل واجبة الوجوب وخصوصاً إن كان الامر يتصل بموعدها، بعد اقتراح تقديم موعدها من الثامن من ايار المقبل، كما حدّدته الدعوة التي وجهّتها الحكومة السابقة، الى 27 آذار، لدوافع تتصل بكثير من المبررات الوجيهة الإدارية منها كما السياسية.
فبين من يقول إنّ الدعوة السابقة الى موعد الثامن من أيار أخذت في الاعتبار ضرورة تجاوز ايام شهر رمضان الكريم، الذي يتعذّر فيه ان تُجرى مثل هذه الانتخابات، هناك من يعتبر انّ تقديم الموعد اليوم يمكن ان يُطلق دينامية سياسية ومالية لإتمام هذا الاستحقاق، لا بدّ منها في مثل الظروف التي تعيشها البلاد، والإسراع في المشاريع الاصلاحية الكبرى التي تحتاج الى دينامية جديدة، لا بدّ ان يبت بها مجلس نيابي جديد منذ بداية ولايته، يترجم المتغيّرات التي يتحدث عنها الداخل والخارج في مزاج اللبنانيين، وخصوصاً تلك التي تسببت بها انتفاضة 17 تشرين، والتي تركتها عملية تفجير المرفأ والتشكيك الشعبي الواسع بحجم التمثيل النيابي الحالي عقب استقالة مجموعة من النواب.
وعلى هامش هذا النقاش الذي يتصل بموعد الانتخابات، فإنّ المشاورات مستمرة من اجل البتّ بالتعديلات التشريعية المطلوبة في ما خصّ مشاركة المغتربين، في ظل سباق اطلقته دعوة «حزب الله» الى إلغاء هذا البند نهائياً، لأنّه يتعذر على محازبيه خوضها في بلدان تضعه على لائحة الارهاب من جهة، والتحضيرات اللوجستية والادارية التي استأنفتها وزارة الخارجية بالتنسيق والتعاون مع وزارة الداخلية، بعد تسلّم الوزير عبد الله بوحبيب مهماته. وهي اجراءات روتينية تشكّل تتمة لتلك التي اطلقتها الوزارة سابقاً، منذ ان بدأ بها الوزير شربل وهبة قبل اعتذاره، والتي استكملتها الوزيرة زينة عكر. وهو أمر سيبقى موضوع ترقّب وحذر، في انتظار من يحسم الجدل القائم بين الرغبة بشطب حق المغتربين نهائياً من مشاركتهم في الانتخابات، والراغبين بها اياً كانت الظروف المادية التي تتحكّم بها.
وإن كان المجلس النيابي هو الذي يحسم الخلافات القائمة عند وضع القانون القائم على مشرحته التشريعية، فإنّ الهموم تتصل ايضاً بقدرة وزارة الداخلية على إدارة هذه العملية. فإلى الإجراءات التي بدأت بها، لا بدّ من انتظار القرارات المناسبة التي تتصل بتشكيل هيئة الإشراف على الانتخابات النيابية وسبل تأمين المستلزمات الادارية والتقنية لهذه العملية. وهي عملية معقّدة ومكلفة جداً، هذا إن توافرت القدرات المتصلة بالربط الالكتروني بين مراكز الانتخابات ولجان القيد وهيئة الإشراف عليها ووزارة الداخلية، حيث ستقوم غرفة العمليات المركزية. وهي باعتراف المعنيين، عملية كبيرة بالغة الكلفة، وإنّ الرهان بات معقوداً على سيل المساعدات المنتظرة من المؤسسات الأممية والمنظمات الاقليمية والدولية التي تشجع على هذا الاستحقاق في توقيته وشكله ومضمونه، وتحذّر من اي مشروع للتلاعب به او الغائه، لأجندات ما زالت تُحتسب في كثير من الأروقة السياسية والديبلوماسية المتداولة، مما يثير القلق على مصيره.
وإلى ان يكتمل المشهد الإداري والمالي والتشريعي، إن سارت الامور وفق محطاتها الدستورية والقانونية، يعترف المراقبون انّ التشكيك بجدّية الولوج الى هذا الاستحقاق سيبقى قائماً حتى اللحظات الاخيرة. فهناك تحذيرات جدّية من إمكان تجاوز الرعاية الدولية اياً كان حجمها، فليست المرة الاولى التي تتمكن فيها السلطة من تعطيل وتمييع هذه الضغوط، وإنّ ما رافق انتظار تشكيل الحكومة العتيدة 13 شهراً ولبننة المبادرة الفرنسية رغم ما حظيت به من دعم غربي وعربي الى ان نجحت في استقطابها وفق شروطها، كان وسيبقى المثال الأفضل على قدرة البعض من مواقع دستورية متمكنة، او عبر قيام البعض بفرض امر واقع جديد، قد يؤدي الى تكرار التجارب السابقة التي أدّت الى تأجيل الانتخابات النيابية، كما حصل اثناء الدعوة اليها عام 2013، والتي انتهت بالتمديد للمجلس النيابي وعدم إجراء الانتخابات الفرعية التي فرضتها استقالات مجموعة من النواب منذ 8 آب 2020 ووفاة آخرين، من دون ان يُحاسب اي مسؤول على تقاعسه في مثل هذه الاستحقاقات الدستورية. وهو ما يُنبئ بإمكان فتح الطريق امام محاولات أخرى لتوسيع «مدار التمديد» الى سلطات ومواقع أخرى، تعزز القول انّ موعد هذه الإنتخابات قد يقود الى ترجمة المثال: «من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه»، وهو مثال لا يوقف النزاع حول إمكان ان نشهد على تجربة اخرى تقول انّ الحديث عن هذه الانتخابات قد يكون «سمك بالبحر».