شكّلتْ «الخيْبةُ» الفرنسيةُ المعلَنةُ من تعليق التحقيق في انفجار مرفأ بيروت إشارةً مبكّرة إلى التبعات الدولية التي ستترتّب على أي عرْقلةٍ سياسية تتخذ لبوساً قضائياً لملفٍّ يتحدّث العالمُ حياله بـ «لغة واحدة» والتي ستتحمّل وزرَها الحكومةُ الجديدةُ التي يربط الخارجُ مدَّها بالدعم المالي الكافي لبدء انتشال لبنان من الحفرة السحيقة بإجراء إصلاحاتٍ وحماية التحقيقات في «بيروتشيما» بوصْفها من أبرز إشاراتِ إطلاق مسار تحصين السلطة القضائية واستقلاليتها وفكّ ارتباطها بالمنظومة السياسية.
واكتسب صدورُ أول موقفٍ دولي بإزاء كف اليد الموقت للمحقق العدلي في جريمة المرفأ القاضي طارق بيطار من فرنسا تحديداً أهميةً خاصةً، باعتبار أن باريس تشكّل «عرّابةَ» الحكومةِ الوليدةِ والمرحلة الانتقالية في الواقع اللبناني التي أقلعت بـ «جناحٍ» إقليمي موازٍ وفّرتْه طهران، وهي لم تتوانَ عن جعْل الإليزيه «منصة» لانطلاقة الرئيس نجيب ميقاتي في مهمة أرادتْ أن تُظْهِر أنه ليس متروكاً خارجياً فيها.
وجاء موقف الخارجية الفرنسية من التجميد التلقائي للتحقيق الذي يقوده بيطار بانتظار بت طلب رده عن الملف الذي تقدّم به أحد المدعى عليها (الوزير السابق النائب الحالي نهاد المشنوق) مدجَّجاً بالرمزيات في صياغته، إذ بدأ بإبداء الأسف لتعليق التحقيق، ليخلص إلى التشديد على «أن من حقّ اللبنانيين معرفة الحقيقة».
واعتبر الناطق باسم وزارة الخارجية الفرنسية أنّ «العدالة اللبنانية يجب أن تعمل بشفافية كاملة وخالية من أيّ تدخّل سياسي»، مضيفاً: «الأمر متروك للسلطات اللبنانية للسماح باستمرار التحقيق بالموارد المالية والبشرية اللازمة، من أجل إلقاء الضوء الكامل على ما حدث في 4 أغسطس 2020، بما يتوافق مع التوقعات المشروعة للشعب اللبناني».
وحرص على التذكير بما كان «أوضحه» الرئيس ايمانويل ماكرون لميقاتي خلال لقائهما في 24 الجاري من «أن فرنسا ستواصل دعم عمل القضاء بشكل مستقلّ وهادئ وحيادي فيما يتعلق بالتحقيق» في انفجار المرفأ.
وإذ جاء هذا الموقف الفرنسي غداة تأكيد منظمة العفو الدولية أن تعليق التحقيق العدلي «دليل جديد على أن القيادة السياسية كان لها هدف واحد منذ اليوم الأول من هذا التحقيق وهو وقفه»، مطالبة بإزاء ذلك مجلس حقوق الإنسان المنعقد حالياً «بإنشاء آلية لتقصي الحقائق، والاستجابة لدعوات عشرات المنظمات وأهالي الضحايا»، فإن هذا المناخ الدولي سيشكّل حافزاً إضافياً لأهالي الضحايا للمضي في «معركة» الدفاع عن «الحق بالحقيقة والعدالة» ورفْض الإطاحة ببيطار وترْكه يلقى مصير سلفه القاضي فادي صوان الذي تمت تنحيته.
وعلى وهج وفاة أحد جرحى «بيروتشيما» (أول من أمس) هو إبرهيم حرب الذي صارع على مدى نحو 14 شهراً إصابته التي أدخلتْه في غيبوبة (ليرتفع عدد الضحايا إلى 218)، نفّذ أهالي ضحايا الانفجار أمس اعتصاماً أمام قصر العدل في بيروت اعتراضاً على وقف التحقيق وعلى المنحى السياسي الذي تُشتمّ منه محاولة للإطاحة بالقاضي بيطار وعلى التهديد بـ «منقبعك» الذي وجّهه إليه «حزب الله» (عبر رئيس لجنة الارتباط والتنسيق وفيق صفا)، وعلى الإصرار على توفير حصانات للمدعى عليهم عبر السعي لتكريس المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء مرجعية لملاحقة أقله رئيس حكومة (حسان دياب) و4 وزراء سابقين حتى الآن بينهم 3 نواب حاليين، وعرقلة منح الأذونات لملاحقة قادة أجهزة أمنية مدعى عليهم جميعاً بـ «التقصير الجنائي».
وشارك المئات في الوقفة التضامنية مع بيطار رافعين لافتات بينها «منظومة النيترات» و«حصانتكم ساقطة» و«منظومة القبع بدا قبْع» و«وراؤكم حتى العدالة»، من دون أن يخلو التحرك، الذي ترافق مع تعليق ناشطين صورة للضحايا داخل باحة قصر العدل كُتب عليها «ما رح تقتلونا مرتين»، من هتافات ضدّ «حزب الله» تصفه بأنه «إرهابي» واتُّهم مناصرون حزبيون (لـ «القوات اللبنانية») بإطلاق شرارتها ما استدعى موقفاً من أهالي الضحايا برفْض تسييس القضية وتوجيه أي اتهامات خارج ما يشير إليه التحقيق حتى الساعة، رغم تأكيد بيانهم الختامي «أننا كلنا اجتمعنا على قضية واحدة والمتهَم الأكبر هو مَن يهدد القاضي داخل قصر العدل فما هي سلطة وفيق صفا حتى يهدّد القاضي؟».
وكان رئيس الجمهورية ميشال عون استبق التحرك بتأكيد «أن التحقيق ليس القضاء، وإذا أخطأ فهناك ثلاث درجات للتصحيح: البداية، الاستئناف، التمييز.
ولذلك، يجب أن يستمر التحقيق كي يُدان المذنب ويبرأ البريء».
وأضاف أنه «اذا كانت المحاكمة العادية تتم على درجتين ودرجة استثنائية، فإن قرار المحقق العدلي بالإحالة على المجلس العدلي وحكم المجلس لا يقبلان أي طريق من طرق الطعن.
ولكن يبقى أن أي إدانة أو تبرئة يحددهما حُكْم المحكمة المبرم وليس التحقيق».
وفي حين كانت الأنظار على أول جلسة لمجلس الوزراء (بعد نيْل حكومة ميقاتي الثقة) عُقدت أمس برئاسة عون بعد اجتماع «المجلس الأعلى للدفاع» الذي مدّد حال التعبئة العامة 3 أشهر لزوم مواكبة جائحة «كورونا» والتصدي لها، فإن الاهتمام بهذه الجلسة تركّز:
أولاً، على ما إذا كانت ستعطي إشارات لكيفية مقاربة ملفات حياتية ضاغطة مثل الكهرباء التي تجري محاولة لاستجرار حلول «ترقيعية» لها على قاعدة زيادة ساعات التغذية بسلفة خزينة جديدة، وذلك بملاقاة شحنات الفيول «المقايَض» بنفط عراقي والاستعدادات للاستفادة من الغاز المصري والكهرباء الأردنية عبر سورية.
وثانياً، على ما إذا كانت الحكومةُ تجاوزتْ فعلياً «مطبّ» تشكيل الوفد الذي سيتولى المفاوضات مع صندوق النقد الدولي وتحديد الخطة التي سيرتكز عليها هذا التفاوض.
وسبقتْ الجلسة التي أكد ميقاتي في مستهلها «أن التحدّي الكبير أن تعمل الحكومة لنيل ثقة الناس وهذا يتحقق إذا كنّا فريق عمل واحداً ومتضامناً»، معلومات عن تباينات بين رئيسيْ الجمهورية والحكومة حول أعضاء الوفد في ضوء إصرارٍ على أن يكون في عضويته عدد من المستشارين (بينهم اثنان من فريق عون وأحدهما لصيق بالنائب جبران باسيل)، وهو ما قوبل بخشيةٍ من أن يدخل هذا الملف في تجاذب حول «الإمرة لمَن» في المفاوضات، وسط رصْد لِما إذا كانت جلسة الحكومة ستشهد بت مسألة الوفد ولو من باب «الإحاطة علماً» بتشكُّله.
وحذّرت أوساط سياسية أمس، من أي «إشارات خاطئة» تصدر عن الحكومة ومكوّناتها في ما خص مسألة المفاوضات مع صندوق النقد، وهو ما من شأنه بعد «انتكاسة» التحقيق بانفجار المرفأ، إفقاد ماكرون زخماً يحاول الاستفادة منه لتعبيد الطريق أمام ميقاتي خارجياً ولا سيما في اتجاه دول الخليج التي «تنأى بنفسها» منذ فترة عن الواقع اللبناني الذي تقاربه أكثر من زاوية سياسية تتصل بتموْضع بيروت الإقليمي ومدى استحكام «حزب الله» بمفاصل القرار في «بلاد الأرز».
وإذ وصل إلى بيروت مساء أمس رئيس الوزراء الأردني بشر الخصاونة على رأس وفد وزاري في زيارة تهنئة لميقاتي على أن يجري اليوم لقاءات مع كبار المسؤولين تتركّز على الإسراع بإيصال الغاز المصري والكهرباء الأردنية الى لبنان عبر سورية، فإن الأوساط السياسية استوقفها إعلان الرئاسة الفرنسية أن ماكرون سيبحث مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز الوضع اللبناني قريباً وأن «تواصلاً (هاتفياً) سيحصل ويشمل أيضاً بحث قضايا المنطقة».
وفيما كان معبّراً ما نقلتْه الرئاسة الفرنسية من أن هناك «تبايناً» بين فرنسا والرياض حيال الوضع في لبنان «إذ إننا نتمنى أن تشارك السعودية في الجهود الدولية لدعم هذا البلد وإنقاذه»، فإن الأوساط نفسها اعتبرت أن إصرار باريس على إخراج الرياض عن «حيادها» حيال الواقع في «بلاد الأرز» يعكس أن فرنسا ورغم تفاهُمها مع طهران الذي أتاح «الإفراج» عن الحكومة الجديدة، إلا أن هذا التوافق «الموْضعي» يبقى قاصراً، وبإقرارٍ فرنسي، عن توفير مقومات الإنقاذ للبنان والتي لا يمكن لماكرون لوحده تأمينها، وهو ما يعني من جهة أن باريس تفتقد لأدوات النفوذ لبنانياً لتكون عنصر حلّ مكتمل المواصفات، كما يؤكد من جهة أخرى أن لا قابلية لأي مسار خلاصٍ من دون الامتداد الخليجي الذي باتت له مقاربات أخرى لـ «جدول المصالح» والأولويات ومرتكزات استعادة العلاقات مع بيروت دفئها.
وفي موازاة ذلك، أكدت الأمينة التنفيذية للجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الاسكوا) رولا دشتي «أهمية الإسراع بإجراء الاصلاحات» في لبنان.
وأعلنت دشتي بعد لقائها الرئيس ميقاتي أن البحث تناول «كيفية دعم الاسكوا لهذه الإصلاحات في مجالات المالية العامة والقضايا الاجتماعية، إضافة الى توفير فرص عمل للبنانيين وتطوير البنية التحتية».
وأضافت: «كما عرضنا أهمية الاستفادة من القروض للبنية التحتية والاستثمار الرأسمالي للبنان لتوفير فرص عمل للشباب اللبناني وتطوير الاقتصاد في هذه المجالات، والاسكوا ستكون داعمة للحكومة وتزويدها بالخبرات الفنية والاقتصادية ليكون لديها قدرة أكبر في المفاوضات مع صندوق النقد الدولي ومع الدول المانحة».