كتبت هيام القصيفي في “الاخبار”:
معاناة أساتذة الجامعة اللبنانية مع الانهيار المالي والاجتماعي واحد من وجوه الانهيار الشامل. إلا أن تأثيراته قد تكون أشد من بقية المشاكل التي تعانيها مختلف القطاعات، خصوصاً أن الإذلال الممنهج لهؤلاء يكاد يتحوّل عمداً إلى حلقة في سلسلة تدمير الجامعة الوطنية عبر تهجير الكفاءات وتركها مرتعاً للمحسوبيات.
بعد أكثر من ثلاثين عاماً في التدريس، يُحال الأستاذ في الجامعة اللبنانية إلى التقاعد براتب لا يتجاوز ستة ملايين ليرة، كانت تعادل أربعة آلاف دولار وتساوي اليوم أكثر من 300 دولار بقليل. هو فصل جديد من مسلسل هدم الجامعة الوطنية الذي بدأ في التسعينيات، سيؤدي إلى تفريغ جامعة الفقراء من كوادرها، وتركها ملعباً لغير المستحقين ممن دخلوا في ملاكها عن طريق المحسوبيات لا الكفاءة، فيما تنشغل القوى السياسية بالمحاصصة في تعيين رئيس للجامعة، وتتعامل السلطة مع سلسلة الانهيارات وكأنها غير موجودة.
«كيف يمكن أن أحضّر للعام الجديد، وأنا أهجس براتبي الذي لا يتعدى الـ 200 دولار، وبمستقبل لا راتب فيه ولا تقاعد ولا طبابة»، بعدما تراجعت التأمينات الطبية للأساتذة مع عدد من المستشفيات، يقول أحد الأساتذة. علماً أن ثمة خصوصية ينبغي أن تكون للأستاذ الجامعي، تشكل له نوعاً من الحصانة للانصراف إلى التعليم من دون المسّ بأسس معيشته. وهذا الهاجس تسعى الجامعات الخاصة، خصوصاً الكبرى منها، إلى التعويض عنه بالحد الأدنى المقبول.
روايات تآكل الرواتب وانهيار المدّخرات تتشابه. لكن وضع أساتذة «اللبنانية» يتداخل فيه المعيشي والإنساني بالمتطلبات الأكاديمية. «بأي أدوات تعليمية سنعود إلى الجامعة؟»، تسأل أستاذة في الجامعة، مشيرة إلى «أننا في مثل هذه الفترة، عادة، نعدّ للعام الدراسي بشراء الحد الأدنى من الكتب والمراجع الحديثة التي لا تؤمّنها الجامعة من مالنا الخاص. اليوم لا يكفي راتب ثلاثة أشهر ثمناً لبضعة كتب ضرورية، ونعجز حتى عن تأمين اشتراكات في الجرائد والمجلات العادية ناهيك عن المتخصصة بسبب وقف البطاقات المصرفية وانهيار قيمة رواتبنا. حتى كومبيوتري أصبحت أخشى نقله معي لئلا يتعرّض لعطل، لأن لا قدرة لي على إصلاحه أو شراء بديل عنه». وتضيف: «كيف أدخل إلى الصف وأنا أعلم مسبقاً بأن دروسي ناقصة لعدم قدرتي على تأمين المواد الضرورية. العلم يسبقنا ونحن نقف عاجزين». فالجامعة «ليست مدرسة، بل مركز أبحاث ودراسات ومتابعة. كيف نطور أبحاثنا ودراساتنا، إذا كنا ندخل إلى الجامعة ولا نجد أدنى متطلبات النظافة والتدفئة أو التبريد أو المكاتب للعمل فيها. بعضنا يعمل في مكاتب أصدقاء له في جامعات خاصة ويستعين بمكتباتها وأرشيفها».
وإلى المشاكل المعيشية والأكاديمية، مشاكل بالجملة كشفت عنها أزمة «كورونا» والتعليم عن بُعد. فعدا عن صعوبة تأقلم الأساتذة والطلاب مع تقنيات التعليم غير الحضوري، جاءت مشكلة الكهرباء والإنترنت، حتى صارت حصة التعليم الواحدة تستهلك يوماً بكامله لمواءمة أوقات الطلاب مع دوام الكهرباء والمولد، ناهيك عن أن طلاباً كثراً لا يزالون يعملون على هواتفهم، بسبب تعطل كومييوتراتهم أو لعدم وجودها أساساً.
أما «المشكلة التي لا يتطرق إليها أحد»، تقول الأستاذة الجامعية نفسها، فهي «إن البهدلة التي نعيشها صارت تؤثر على صورتنا أمام الطلاب. فصورة الأستاذ الجامعي عادة هي صورة لائقة، لكن حتى مظهرنا اليوم لم يعد لائقاً أمام الطلاب على صعيد الاهتمام بثيابنا وشكلنا الخارجي. أضف إلى ذلك أن غياب الأمان المادي ينعكس تشتّتاً. كيف أقف ساعات للتعليم، وأنا بالكاد قادرة على شراء الطعام لعائلتي. منذ شهر لم أشترِ أي نوع من الفاكهة ولا أتناول طعاماً مغذياً. وبعض من في عائلتي يتلقّى مساعدات غذائية. ما نعيشه إذلال ممنهج بكل ما في الكلمة من معنى».
الهجرة حبل «الأمل» الوحيد المتبقي أمام هؤلاء. وهذا يعني نزفاً للكفاءات وإفراغاً للجامعة الوطنية «بعدما أُفرغنا من المستوى الأكاديمي والعلمي الذي يفترض أن يتطور ويواكب ما يجري في جامعات ومؤسسات أخرى. البعض يعتقد بأن حضور مؤتمرات في الخارج هو نوع من الترف، فيما هذه من بديهيات التواصل الجامعي. هناك من يريد أن يحصرنا داخل أوراق المادة التعليمية، يصورها الطلاب ويتناقلونها، ويجرون امتحاناً فيها. وتنتهي القصة»، يقول أحد الأساتذة الذي يفتش عن عمل في الخارج، مشيراً إلى أنه في المقابلة التي أجراها بعد تقديم الطلب، «اكتشفت من نوعية الأسئلة مدى تراجع مستوانا العلمي كأساتذة بسبب انهيار أوضاعنا. وإذا استمر الوضع كما هو لعامين إضافيين، قد لا يعود بمقدورنا التقدم إلى أي عمل لأننا سنكون فقدنا كلياً القدرة على مواكبة ما يجري من تطور في اختصاصاتنا».