كتبت زيزي أسطفان في “الراي”:
لم يكن السقوط المالي المريع الذي أصاب لبنان، وحده الصاعق الذي ضرب البلاد والعباد. فسرعة الانهيار المتدحرج والشامل قَلَبَتْ هذا الـ«لبنان» رأساً على عقب. ولم يكن أدلّ على الارتطام المدوي من التبدّل القياسي والهائل في حياة اللبنانيين، في فترة قصيرة نسبياً وعلى نحو غير مسبوق بالتأكيد.
مَن يتجول في بيروت وأي مناطق أخرى، يعاين الأمكنة والوجوه، يجول في الشوارع وبين الناس، يشعر وكأن زلزالاً مرّ من هنا وهناك… طوابير ذلّ وجيوش متسوّلين، محال مقفلة وأسواق مقفرة، كآبة وفقر وهجرة وتسرُّب مدرسي… كأنه عالم سفلي هبط بلا استئذان.
رغم كل هذه المأسوية التي تضج بها الحياة اليومية، فإن اللبناني الذي لم يتعوّد رفْع الرايات البيض بسهولة أمام المحن والتحديات والحروب والأزمات، يصعب أن يعلن استسلامه وربما يردد في سره «حكمة» تقول إنه «في عالم ضيّق لا بد من خيال واسع».
يحاول اللبناني الذي خبِر الحياة بحُلوها ومُرها التأقلم مع الزمن الصعب، يبتكر وسائل الصمود، يجترح حلولاً على طريقة «الحاجة أم الاختراع» ويداوي بـ«التي كانت هي الداء».
مَن بقوا في لبنان ولم يُتح لهم الرحيل وجدوا أنفسهم «يتامى» متروكين لأنفسهم، ومضطرّين لمواجهة واقعهم اليومي المأزوم بحلول «من حواضر البيت» وبما تَيَسَّر. فالحكومة التي أملوا خيراً بولادتها، لم يروا بعد من خيْرها الموعود شيئاً. أما شرورها وسابقاتها فواقع جاثِم على صدورهم، ومن أسوأ تجلياته رفْع الدعم شبه الكامل عن المحروقات الذي جعل سعر صفيحة البنزين يتخطى 210000 ليرة (الحد الأدنى للأجور بات يساوي 3 صفائح بنزين) و«الحبل عالجرار». لم يعد المواطن اللبناني الفقير والمتوسط الحال (وهم الغالبية الساحقة) قادراً على التنقل والذهاب الى عمله أو مدرسته أو جامعته في ظل عدم قدرته على ملء خزان سيارته بالوقود حيث إن كل «تفويلة» باتت «تأكل» الحد الأدنى للأجور (675 ألف ليرة لم تعد تساوي إلا نحو 45 دولاراً) هذا إذا كانت السيارة من 4 اسطوانات وتستهلك صفيحة لكل 240 كيلومتراً، وإلا لـَ«طار» مثلاً الراتب الذي كان قبل نحو عامين يساوي 2000 دولار بعد 3 «تفويلات» لسيارة بمحرك 8 اسطوانات. كما أن تعرفة وسائل النقل «حلقت»، لتبلغ أيضاً تكلفة الباصات المدرسية مستويات غير مسبوقة يصعب على الأهل تحملها. ويزيد من وطأة الأزمة عدم وجود وسائل نقل مشترك منظمة وفاعلة، أقله من حافلات وباصات، تشكل «بديل الحد الأدنى» للسيارات الخاصة في كل بلدان العالم.
ورغم هذه الصورة القاتمة التي قلبت طريقة عيش اللبناني رأساً على عقب إلا أنه لم يستسلم وسعى لابتكار أكثر من حلّ. ومَن يعرف «بلاد الأرز» جيداً ولا سيما مناطقها الشعبية الفقيرة، يدرك أن ثمة جيوشاً من «الموبيلات» (السياكل) أو الدراجات النارية الصغيرة الحجم والمصروف تجوب شوارع بيروت وضواحيها ويستخدمها الشبان والمراهقون للتنقل، كما تشكل «ألوية» فاعلة سريعة التدخل عند بعض الأحزاب.
حتى الأمس القريب كان استخدام هذه الدراجات مقتصراً على مالكيها أو على مَن يتولون مهمة «الدليفري» في المطاعم. لكن فكرة ذكية لمعت في رأس أحدهم نقلت هذا النوع من الدراجات من مستوى إلى آخَر وحوّلتها «تاكسيات» عملية سريعة «وفّيرة». وسرعان ما تعممتْ الفكرة على شوارع لبنان ومناطقه.
تاكسي الدراجة عملي و«أرخص»
المبدأ سهل: كل صاحب دراجة يمكنه أن يعرض خدماته عبر وسائل التواصل على من يسكن قربه، ليؤمّن نقلهم إلى حيث يريدون أو نقل أطفالهم إلى المدارس إذا كانت المسافة قريبة، وذلك بسعرٍ نسيه اللبنانيون ولم يعودوا يأملون به هو 3000 ليرة للمشوار الواحد.
وقال عزام المير، وهو صاحب دراجة نارية «تاكسي» في مدينة طرابلس: «تكلفة التنقل في سيارة الأجرة بلغت 20 ألف ليرة أخيراً بعدما كانت لا تزيد على ألفي ليرة للراكب، وهذا مَنَعَ المواطنين من التنقل بالسيارات، بينما نحن كسائقين لم نستطع تأمين مادة البنزين إلا من السوق السوداء، وبتكلفة باهظة تجاوزت 400 ألف ليرة للصفيحة».
وأضاف: «لم يكن أمامنا سوى اعتماد الدراجة النارية كوسيلة نقل، وقرّرنا مع مجموعة من السائقين أن نعتمد تسعيرة النقل عند 3 آلاف ليرة للراكب. هذا المبلغ يناسب السائق والراكب معاً». وتابع: «هناك ترتيبات ستُتخذ لأخذ احتياطات الحماية من المطر في الشتاء. علماً أن الدراجة تتسع لراكب واحد وستؤمَّن له مظلة خاصة. فالأمر بدأ يتحول بزنس يحتاج الى تطوير وتأقلم مع الظروف».
إذا كان المشوار قليل الكلفة على المواطن إلا أنه عالي المخاطر في ظل فوضى القيادة في شوارع المدينة وعدم تطبيق القانون من سائقي الدراجات حيث ان غالبيتهم لا يضعون خوذة حماية على الرأس ولا يجبرون راكبها على ذلك، كما لا يرتدون الملابس الواقية التي تحميهم عند التعرض لحادث أو عند السقوط عن الدراجة، ناهيك عن أنهم يسيرون أحياناً كثيرة عكس السير ولا يلتزمون بالإشارات الضوئية ويزاحمون بعضهم البعض في الأزقة الضيقة ويشكلون إزعاجاً وخطراً على السيارات وركابها وحتى على المارة العابرين في الشوارع.
«التوك توك» رفيق الفقر… يحط رحاله في لبنان
إلى جانب تاكسي الموبيلات وتَوسُّع «أعمال» بعض دراجات الديلفري إلى «تَبَضُّع على الطلب» على قاعدة «منتبضّع عنّك وواصل على البيت»، ثمة ظاهرة أخرى بدأت تجتاح بعض المناطق اللبنانية ولا سيما البقاع وهي الـ«توك توك». فكرة جديدة تحبو على دواليب ثلاثة لتُبْعِد العوز عن الغارقين فيه وتشكّل مَخْرجاً لأزمة الوقود الضاغطة، لكنها تنحى بصورة لبنان شرقاً نحو تلك البلدان التي يُعدّ فيها استخدام الـ توك توك «رمزاً» من رموز الفقر. حتى ان البعض لا يغفل الإسقاطات السياسية لظاهرةٍ كأنها جعلت من لبنان جزءاً من «سورية المفيدة».
الـ«توك توك» أو «البجاج» صناعة هندية بامتياز كما يخبرنا نيكولا الدهني مدير المبيعات في شركة هي الوكيلة الحصرية لهذا النوع من الآليات في لبنان، وسعره حالياً نحو 2400 دولار، والشركة تؤمن قطع الغيار والصيانة بأسعار مقبولة.
في العام 2013 بدأت الشركة استيراد «البجاج» وكان الطلب متواضعاً جداً عليه، ولكن في 2020 مع اشتداد الأزمة الاقتصادية ارتفع الإقبال على شراء «التوك توك» بشكل كثيف جداً، وزادت المبيعات بأكثر من 100 في المئة بعدما صار متعدد الاستعمالات يستفيد منه صاحبه في التنقل بكلفة مقبولة جداً تغنيه عن السيارة أو في نقل الركاب أو تأمين خدمة الدليفري أو حتى تحويله إلى محل لبيع القهوة أو السندويشات بعد إجراء بعض التعديلات عليه.
ويأتي هذا الارتفاع في مبيع التوك بالتوازي مع انخفاض مأسوي في مبيع السيارات الجديدة.
ومصروف الـ«توك توك» أقلّ بنحو 70 في المئة من مصروف السيارة إذ يمكنه أن يسير بين 650 و750 كيلومتراً في التنكة الواحدة في الطرق المستوية و600 كيلومتر أو أقل في الطرق الجبلية بسرعة تراوح بين 50 الى 70 كيلومتراً بالساعة وفق حمولته وصعوبة الطرق.
وسام عراجي صاحب شركة البركة للـ«توك توك» في البقاع يقول لـ«الراي» إنه يملك في شركته أكثر من عشرين «توك توك» غالبية سائقيها من السوريين، لكنه لا يستخدمها كتاكسي على الخط بل لأعمال «الدليفري» ونقل الطلبة والصغار، وهو متعاقد مع أكثر من فرن ومصبغة لاستخدام آلياته في عملهم.
ويؤكد عراجي أنه في منطقة البقاع الأوسط أكثر من 280 «توك توك» يعمل على 80 في المئة منها سائقون سوريون يؤمّنون النقل داخل المخيمات في محيطها.
ويضيف: «أخيراً ومع اشتداد الأزمة الاقتصادية بدأنا نرى اشخاصاً لبنانيين يقودون هذه المركبات ويستخدمونها كمصدر رزق لنقل الركاب وعلى الأخص تلامذة المدارس ما يؤمن معيشتهم من جهة ووسيلة نقل غير مكلفة للمواطنين والطلبة من جهة أخرى. وهي على خلاف الدراجات النارية آمنة بشكل كبير وقد بدأ اللبناني يتقبل فكرة استخدام التوك توك للتنقل ويرى فيها حلاً لأزماته الكثيرة، خصوصاً أن تعرفة النقل فيها لا تتعدى 6000 ليرة».
… في أقل من عامين، انقلبتْ أحوال اللبناني. وما كان يُدهش له في البلدان الفقيرة التي لم يعتقد يوماً أنه سينضمّ إلى لائحتها، بات «اعتيادياً» في يومياتٍ لم تعُد تشبه لبنان… الذي كان.
المخاطر عالية
أحصت دراسات أعدّتْها جمعياتٌ محلية متخصصة بحوادث السير، أن الدراجات النارية في لبنان تسبّب إصابات في حوادث السير 35 مرة أكثر مما تسببه السيارات، وتزداد هذه النسبة عند سوء استخدامها، ولا سيما أن العدد كبير من سائقي الدراجات لا يملكون رخصة لقيادتها أو أن 99 في المئة، منهم بحسب مدرب قيادة الدراجات سليم جنبلاط، يجهلون أصول قيادة الدراجة وقواعدها، وتَعَلَّموها بالفطرة بطريقة عشوائية وحصلوا على رخصتهم بطريقة تشكل خطراً عليهم وعلى سواهم ولا تدرّبهم على ما ينتظرهم من أهوال على الطرق المزروعة بـ«الأفخاخ»، من حُفَرٍ «على مدّ عيْنك» وزفت سيئ وعتمة… حيث لا إضاءة، لا تصريف للمياه، غياب المسارات المخصصة للدراجات وتلاشي الخطوط الواضحة للسيارات، وفوق كل هذا لا مراقبة جدية من الدولة لا سيما في الظروف الحالية ولا تشدُّد في تطبيق قانون السير وفرض الغرامات على المخالفين.
لكن الضرورات تبيح المحظورات، وتسقط كل الأعذار عند الحاجة الى ركوب الدراجة للتنقل في غياب السيارة. عثمان أب لثلاثة أطفال كان قد سجّلهم في فان خاص لينقلهم الى المدرسة كما اعتاد في الأعوام السابقة قبل جائحة فيروس كورونا فيما كان هو ينطلق الى عمله على دراجته. ويقول: «اليوم ألغيتُ التسجيل بعدما طلب مني صاحب (الفان) مليونا ونصف المليون ليرة عن كل ولد شهرياً. مبلغ جنوني لا يحتمله عقل ولا جيْب. فتّشتُ عن خوذ مستعملة واستحصلتُ على ثلاث منها وصرت يومياً أحمّل الثلاثة على متن الدراجة وأنقلهم بهدوء وروية الى المدرسة. أعرف أنني أخاطر بسلامتهم ولكن لا حلّ آخر أمامي، فإما الدراجة واما (خليك بالبيت)».
ماهر سائق دراجة حوّلها الى تاكسي لأن الحاجة فرضت عليه ذلك بعدما فقد وظيفته واضطر الى أن يبيع أثاث بيته كما روى لإحدى الشاشات حتى يعيل زوجته وابنه الرضيع. وبعدما انتقل إلى منزل أهل زوجته، خطرت له فكرة نقل الركاب المحتاجين، وما أكثرهم، على دراجته لقاء بدل بسيط.
الفكرة أعجبت المحيطين به وباتوا يلجؤون إلى خدماته خصوصاً مع ازدياد زحمة الشوارع الخانقة في بيروت مع وقوف الطوابير أمام المحطات. فالدراجة تؤمن تنقلاً سريعاً ولا تقف في الزحمة بل تجد لها طريقاً كيفما تيسّر. وازدهرت الطلبات على دراجته ولا سيما حين بدأ يعلن عنها على مواقع التواصل وأخذ الناس يتناقلون منشوره بحيث تحوّلت فكرته ظاهرة سرعان ما انتشرت في شوارع العاصمة.
ويروي أحد الركاب تجربته اليومية قائلاً: «ما عدت بحاجة لاستعمال سيارتي ولا للانتظار لساعات أمام المحطة، أتصل بماهر مسبقاً، أحجز دوري فيقلّني من تحت منزلي وأصل الى حيث أقصد بعشر دقائق مرتاحاً، منتعشاً، ولا أدفع أكثر من 3000 ليرة (يا بلاش)».