كتب نقولا ناصيف في الأخبار:
امتحانان فعليان تواجههما حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، هما صندوق النقد الدولي والانتخابات النيابية. وكلاهما يُشعرانها بأن ثمّة شريكاً لها خارج الأفرقاء اللبنانيين المعنيين.
الشريك الفعلي، المؤثر، الذي لا يمكن تجاهل دوره والانصات إليه في امتحاني صندوق النقد الدولي والانتخابات النيابية اللذين ستخضع لهما حكومة الرئيس نجيب ميقاتي هو الغرب، سواء عبّرت عنه فرنسا أو الاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة أو مجلس الأمن. ما يطلبه فريق الغرب يصعب على السلطات اللبنانية كلها، خصوصاً حكومة ميقاتي المعوَّل عليها، إغفاله أو صمّ الأذن عنه أو التلاعب بمواعيده أو توسّل «البلف» في التعامل معه على نحو ملفات شتى في الماضي القريب.
الامتحانان في خواتيمهما وليس في بداياتهما. سمّت الحكومة الجديدة فريقها إلى التفاوض مع صندوق النقد، وتحدثت عن بداية اتصالات وتبادل أفكار. بيد أن المُراد هو أكثر من ذلك بكثير، وهو التسليم بخيارات الصندوق كشروط حتمية لوصول مساعدات إلى لبنان، وتالياً تحقيق إصلاحات صارمة وقاسية لم تعد الآن مؤلمة بالقدر الذي كان متوقّعاً عندما نوقشت اقتراحات صندوق النقد في مطلع ولاية حكومة الرئيس حسان دياب، وقيل إن اللبنانيين وقتذاك، ما بين شباط 2020 ومنتصف السنة، لا يسعهم تحمّل تداعيات رفع الدعم على المحروقات والدواء والمواد الغذائية وتحرير العملة الوطنية. كل ذلك المؤلم الشقيّ بات اليوم أمراً واقعاً، إما اعتاده اللبنانيون، أو هم يتقبّلونه على مضض ويستوعبون تدريجاً أعباءه الخانقة التي لا تطاق.
انقضى هذا الشقّ في ما طلبه صندوق النقد الدولي وبات نافذاً، ولم يعد في الإمكان العودة به إلى الوراء. أضحى أيضاً في اليوميات الحتمية للبنانيين. يبقى الأصعب المطلوب بدوره هذه المرّة من الطبقة السياسية الحاكمة في ملف الإصلاحات البنيوية في الاقتصاد والنقد: فك خناقها عن الدولة اللبنانية، وتخليها عن الإمساك بمقدراتها، والاستيلاء على المال العام، وتسهيل كل ما يعيد بناء مؤسسات الدولة وقطاعاتها شبه المدمرة، المنهوبة والمستولى عليها، ووضع حدّ للإهدار. تالياً ترك الدولة تسيّر نفسها بنفسها، في معزل عن الطبقة السياسية ومصالحها مذ أحالت الدولة المموِّل الأول لأحزابها وتياراتها.
على نحو كهذا، فإن التفاوض المقبل مع صندوق النقد الدولي يتوخى وضع الإصلاحات موضع التنفيذ الفعلي، لا مناقشتها والبحث في بدائل منها أو حلول جزئية.
الأمر نفسه يقارب الغرب به الانتخابات النيابية المقبلة. هو شريك فيها على نحو مشابه لمرات سابقة عدة، تصرّف فيها بانحياز كان يتبع المحطات السياسية كي يختار الغرب الفريق الذي يطمئنه الانحياز إليه. في الحالات المتعارضة تلك كانت شعاراته الأولى، على نحو ما يكرره اليوم وسيفعل كذلك غداً، أنه معني بالاستحقاق كموعد دوري له توقيت دستوري وهدف ديموقراطي وتقليد يرتبط بتداول السلطة. أما انحيازه فشأن آخر: في انتخابات عام 1992، الأولى في ظل اتفاق الطائف المرعي بتسوية سورية – أميركية، قاطعها المسيحيون، سارع الغرب إلى الاعتراف بنتائجها وتبنّى الفرض السوري لها، فحضر سفراؤه أولى جلسات البرلمان المنتخب بإرادة دمشق، محمّلاً المسيحيين وزر خطأهم الجسيم. كذلك فعل في المرات التالية عامي 1996 و2000.
في انتخابات 2005، جهر مجدداً بوسيلتيه إياهما: معاييره وانحيازه إلى فريق، لكن في مقلب مناقض كلياً لما حدث عام 1992. اصطف إلى جانب أحد طرفي الاشتباك في البلاد وقتذاك، وهما قوى 8 و14 آذار. كان الغرب، وخصوصاً الفرنسيين والأميركيين، مع قوى 14 آذار، هم العارفون بأن معظم أقطابها إما وُلدوا أو نموا أو تغذوا أو تبوؤا المناصب وامتلكوا الثروات في أحضان السوريين، ثم انقلبوا عليهم في مواجهة قوى 8 آذار المحسوبة حليفة لسوريا. حافظ الغرب على نصف الطبقة السياسية الحاكمة حينذاك – المشكو من فسادها وسمعتها السيئة اليوم – وأسهم في فوزها بأكثرية مقاعد مجلس النواب كي يُلحق الهزيمة بخصوم هذا الفريق وهم سوريا وحلفاؤها. وهذا ما حصل بالفعل، واعتبر الغرب أنه الرابح في استحقاق لم يكن قد استحقه أصحابه.
في انتخابات 2022، ثمّة مقاربة ثالثة يتوسّلها الغرب بعد تجربتين متناقضتين عامي 1992 و2005، هي أنه يتحضّر سياسياً ومالياً وإعلامياً وديبلوماسياً واجتماعياً حتى، وبالتلويح المتذبذب بالعقوبات، لخوضها ضد الطبقة السياسية الحاكمة حالياً برمّتها، لا يستثني أياً ممّن يُفترض أنهم حلفاؤه أو كانوا يوماً، من خلال الجمعيات والهيئات والمؤسسات التي يرعاها على أنها إما ابنة المجتمع المدني، أو ابنة الحراك الشعبي في 17 تشرين، أو ابنة العداء للطبقة السياسية الحاكمة.
في بساطة تعرفها حكومة ميقاتي قبل سواها، هي المدعوة إلى إجراء انتخابات 2022 المتبناة في البيان الوزاري كما في ما أدلى به رئيسها في باريس بالذات، أن أي محاولة أو حجة لافتعال سبب يؤدي إلى إعطاب إجراء الاستحقاق في موعده، سيترتب عليها انهيار كل الجهد الذي يجريه ميقاتي مع الغرب وانفتاحه عليه وسعيه، بما له أن يفعل، إلى بعث الحد الأدنى من الثقة بطبقة سياسية فقدت كل صدقية ممكنة. الحكومة نفسها، المنبثقة من الطبقة الحاكمة هذه التي سمّت وزراءها، معنية بدورها بإعادة وصل ما انقطع مع الغرب، ما دام وصل ما انقطع مع العرب مؤجل إلى أمد غير معروف. مآل ذلك كله العودة بالوضع الداخلي إلى أسوأ مما كان قبل تأليف الحكومة.
ربما من أجل ذلك، في ظاهر ما يُدلى به قبل أشهر من موعد الانتخابات، كل الأفرقاء يتمسكون بها ويصرّون على إجرائها. يقلّلون أحياناً من أهمية اختلافاتهم على تعديل قانون الانتخاب، بيد أن أياً منهم لا يسعه، ولا يجرؤ حتى على القول إنه لا يريد انتخابات يعرف أن خصمه فيها هذه المرة «غول» يصعب تخويفه.