مستفيداً من تجربة النيات الحسنة التي لم تُنْتِج على مدى نحو عقديْن إلا تعبيد طريق لبنان إلى جهنّم، يلْتقي المجتمعُ الدولي عند منْح حكومة الرئيس نجيب ميقاتي فرصةً للخروج من «إعلان النيات» الإصلاحية إلى ترجماتٍ عملية تتطلّب في شقّها التقني المالي – الإداري – القطاعيّ وَقْفَ «الألاعيب» الداخلي، ومحاولات الاستثمار السياسي في… «أنقاضِ» دولة.
وليس أدلّ على هذه «الفرصة» من ارتفاعِ وتيرةِ الزيارات الأوروبية إلى بيروت على وقع محاولةِ باريس تقديم نفسها «راعيةَ» الواقع اللبناني بـ «نسخة التفاهم الفرنسي – الإيراني» الذي ظلّل ولادة حكومة «التشارُك الحزبي بوزراء غير حزبيين»، في موازاةِ اهتمام أميركي متعدد الزاوية، يبدأ من استمرار التشدُّد حيال «حزب الله»، وهو الملف «الموصول» بمسار «الأخذ والردّ» في ما خص النووي الإيراني والمقايضات الممكنة بإزائه مع حلفاء واشنطن في المنطقة، ولا ينتهي بعنوانِ الترسيمِ البحري مع اسرائيل بكل أبعاده النفطية والاقتصادية والديبلوماسية – السياسية.
وتجّلت «الدفعة على الحساب» من الإحاطة الخارجية بالواقع في «بلاد الأرز» أمس بزيارة وزير الدولة للشؤون الخارجية الألمانية نيلز أنن بالتوازي مع استمرار محادثات الموفد الفرنسي بيار دوكان في بيروت، كما بلقاء ميقاتي سفراء وممثلي بعثات الاتحاد الأوروبي الذين أعلن باسمهم سفير الاتحاد رالف طراف «أن النيات الحسنة لا يمكن أن تحقق التطور، ولكن ما سمعناه من الرئيس ميقاتي ومن البيان الوزاري وإعلان النيات، وما نعرفه يؤكد أن هناك ما يستحق الدعم».
ولم يبدّد هذا الاهتمام شكوكَ أوساطٍ عليمةٍ بإزاء عدم جهوزية الأرضية اللبنانية، لا لتنفيذ «دفتر شروط» إصلاحي مدجّج ببنود «مزمنة» بعضها عمره من مطلع الألفية الثالثة وبعضها الآخر رُبط بـ«خطوط تماس» سياسية، وكلها ستقارَب بخلفيةٍ انتخابيةٍ نيابية ورئاسية، ولا لفك ارتباط الوضع الداخلي بالصراع الإقليمي إمعاناً باقتياد البلد إلى «فوهته» أو محاولةً لترجمة تحوّلاته محلياً.
وإذا كانت «حزمةُ الخلافات» حول العناوين الإصلاحية لم تتبدّل رغم محاولة «القفز» فوق بعضها (مثل الهيئة الناظمة لقطاع الكهرباء)، وهي تشتمل على خطة التفاوض مع صندوق النقد الدولي (الذي باشر لبنان التواصل الاستطلاعي معه) التي تقترب من لحظة «الحقيقة» حيال إمكان توحيد الرؤى والأرقام فيها، كما على موضوع إصلاح قطاع الكهرباء وإنشاء المعامل، فإن جانباً لا يقلّ وطأة بدأ يثير اهتمام الداخل والخارج ويتمثّل في استكمال «حزب الله» حملته على دول الخليج و«تطوير معركته» مع الولايات المتحدة وجعْلها «ترتدّ» نحو «أميركيي الداخل اللبناني» لتحقيق واحد من أمرين أو كلاهما: الأول ليكون هذا عنوان «تعبئةٍ» في الطريق إلى الانتخابات النيابية التي يُخشى أصلاً أن تتحوّل «مثلث برمودا» يبتلع كل محاولات التفاهم على ملفات إصلاحية.
والثاني أن يكون الأمر في سياق تحديدٍ لـ «سلّة أهداف» يستثمر الحزب معها ما يعتبره تفوّقاً لمحوره في المنطقة بوجه خصومه المحليين.
وتضاف إلى «الخاصرة الرخوة» المحلية لجهود المجتمع الدولي وبعض العواصم العربية لإعطاء لبنان «وقتاً مستقطعاً» لالتقاط أنفاسه وتقديم الإشارات اللازمة لوضْعه مجدداً على «رادار» الدعم المالي الـ«ما فوق إنساني»، مسألةُ الترسيم البحري مع اسرائيل والتي يُخشى أن تتحوّل بدورها عنواناً استقطابياً داخلياً في ظل ما تفرّدت «الراي» بكشفه عن منحى لتبديل الوفد العسكري الذي يتولى المفاوضات غير المباشرة برعاية أميركية وأممية بآخر مدني أو تطعيمه بمدنيين، وهو ما قوبل بتقارير نقلت تلويح قائد الجيش العماد جوزف عون بالانسحاب من المفاوضات.
علماً أن هذا المسار معلَّق أصلاً منذ أشهر على «حرب خرائط وخطوط» يتلكأ لبنان الرسمي عن حسمها بتوقيع تعديل مرسوم حدوده البحرية رقم 6433 ليقوي موقف فريقه التفاوضي الذي طرح خط ترسيم جديداً (29) غير موثّق في الأمم المتحدة، ويصعب تقدير المنحى الذي سيأخذه مع استبدال واشنطن الوسيط الأميركي جون دوروشيه بآموس هوكشتاين الذي سبق أن كان مسؤولاً عن هذا الملف العام 2016 في إدارة الرئيس باراك اوباما ويُنتظر أن يزور بيروت بحلول منتصف الجاري.