كتب نبيل هيثم في “الجمهورية”:
يكاد لا يخلو موقف لمسؤول دولي من كلام مباشر حول الاستحقاق الانتخابي في ربيع العام المقبل. والملاحظ انّ هذا الامر تكثّف في الآونة الاخيرة، على نحو بدا معه هذا الاستحقاق بنداً اول في الأجندة الدولية، يتقدّم على الإصلاحات المُطالب بها لبنان ويفوق أهميّتها. ويُستخلص ذلك، من الدعوات المتتالية وشبه اليومية من كل مستويات ومنابر ومحافل المجتمع الدولي، بضرورة إجراء الانتخابات النيابية بنزاهة وشفافية ومن دون إبطاء، وتحذيرات صارمة بعدم تعطيلها او تأجيلها.
هذه الحماسة الدولية تدفع إلى السؤال: ما سرّ هذه الاندفاعة الدولية نحو الانتخابات واستمرار المطالبة اليومية بإجرائها، وفي الوقت الذي حسمت فيه السلطة السياسية إجراء هذه الانتخابات، وتحدّد مبدئياً يوم الأحد 27 آذار 2022 كموعد لإجرائها؟ وهل ثمّة في المجتمع الدولي من يشتمّ رائحة نوايا تأجيليّة او تعطيليّة للإستحقاق الانتخابي، أم ماذا؟
للوهلة الأولى، وأمام الإصرار الدولي على اجراء الانتخابات في موعدها والتحذير من مغبة التأجيل او التعطيل، يخال المراقب نفسه عشية انتخابات العام 2005 وأمام تجربة تتكرّر؛ حينما هبّ الخارج كله للضغط لإجراء تلك الانتخابات في موعدها، ليقينه آنذاك أنّها ستحدث انقلاباً في الواقع اللبناني، وتفرز أكثرية جديدة على أنقاض أكثرية جاءت بها انتخابات في زمن السوريين. وبالفعل حدث الانقلاب آنذاك بفضل «التحالف الرباعي».. وحكمت أكثرية 14 آذار.
ما يريده المجتمع الدولي من الانتخابات المقبلة، سبق أن عبّر عنه مرّات عديدة، حيث تبنّى شعارات حراك 17 تشرين الاول 2019، وإدانته للسلطة الحاكمة، ونادى بانتخابات نيابية تلبّي تطلّعات اللبنانيين الغاضبين الذين نزلوا الى الساحات، بالتغيير ومحاسبة الفاسدين والمتسببين بالأزمة، ولكن هذا التغيير ليس متاحاً وصعب المنال.
يتفهّم بعض السياسيين الحث الدولي على إجراء الانتخابات، ولكن أن يُراهَن على تغيير انقلابي في الانتخابات، فهنا قمّة المبالغة، الّا إذا كان خلف الأكمة أمر ما مخبأ حتى يوم الاستحقاق ولا يُرى إلّا بالمجهر الدولي؟
ومع استبعاد وجود شيء خلف الأكمة الدولية، فإنّ هؤلاء السياسيين يبررون الحثّ الدولي على إجراء الانتخابات، بأنّه نابع من عدم تصديق سلطة قدّمت للمجتمع الدولي خلال السنتين الماضيتين اسباباً كثيرة لاتهامها بعدم ايفائها بالتزاماتها. مع انّ اجراء الانتخابات هو أمر مفروغ منه من الأساس، ولا نية، مسبقة او لاحقة لأي طرف سياسي في تأجيلها او تعطيلها.
في اعتقاد هؤلاء السياسيين، انّ النظرة من الشرفة الدولية الى الواقع اللبناني، ربما تتعرّض لـ»تغبيش» متعمّد، حيث تُقَدَّمُ فيه أدوات التغيير المفترضة لإحداث الإنقلاب، بمرايا مكبّرة لها، مقرونة بصدى الصوت العالي الصادر عن «الحراكات التغييريّة» واللعبة الدعائية والإعلامية المسخّرة لها، التي أوحت من خلالها انّها ممسكة بالارض، ومتحكمة بزمام التغيير الشامل وبناء السلطة البديلة بوجوه سياسية جديدة.
على انّ هذه الصورة، تنسفها النظرة الى الواقع اللبناني من الشرفة الداخلية، التي تتبدّى أمامها مجموعة وقائع وحقائق ثابتة، تهدم كلّ احلام التغيير الذي ينشدونه:
اولاً، إنّ فعالية «الحراك»، أو بمعنى أدق «الحراكات» التي نشأت على ضفاف «17 تشرين» معدومة، بما يفقدها أي قدرة على التغيير. فهي حراكات ضعيفة مشتتة وليست قلباً واحداً، بل قلوب مليانة على بعضها البعض، وتفرّقها عن بعضها البعض حوّلها مع الوقت الى «حراكات موسمية» لا تقدّم ولا تؤخّر، ما لبث ان غيّبها بالكامل عن الفعل والسمع وعن الساحات، في اكثر اللحظات الحرجة التي مرّ فيها لبنان. وانتخابات الربيع ستُظهر بالتأكيد حجمها، او أحجامها على حقيقتها من دون توريم او تكبير او تضخيم.
ثانياً، انّ كل مطلب تغييري داخلي او خارجي بانتخابات تحدث انقلاباً في الصورة السياسية، ومهما كان يتسمّ بصدقية او جدّية، هو مطلب عبثي ساقط سلفاً. إذ لا يحلم أحد بتغيير ولو طفيف جداً، في الهيكل السياسي والنيابي القائم في ظلّ القانون الانتخابي النافذ، الذي تصفه اكثرية اللبنانيين بالقانون المسخ، بصوته التفضيلي الأعوج وبنسبيّته الناسفة والمشوّهة للنظام النسبي. وبالتالي، فإنّ اجراء الانتخابات على اساسه سيعيد إنتاج الصورة النيابية نفسها القائمة حالياً، من جديد. الّا اذا كان فوز مرشّح «حراكي» او مرشحين او ثلاثة، وهذا ممكن في مناطق معيّنة محسوبة على قوى ركبت موجة انتفاضة 17 تشرين، هو أقصى الإنتصار الموعود بالنّسبة الى رافعي شعار التغيير.
ثالثاً، مهما حاولت بعض الأطراف السياسية الإنكار، فإنّها لا تستطيع ان تهرب من حقيقة ان تطوّرات ما بعد 17 تشرين 2019، أصابتها في الصميم، ولذلك فإنّ اقصى هدفها وجهودها ليس التغيير الذي ترفع شعاره، بل ان تستعيد حضورها المتهالك وتعود الى ما كانت عليه قبل 17 تشرين، وإنْ قدّر لها تستعيد ان تطوّق وتحجّم وتقلّص حضور قوى سياسيّة في شارعها. وعلى هذا الأساس يقوم الصراع العنيف بين القوى المسيحية، وعلى وجه الخصوص بين «حزب القوات اللبنانية» و»التيار الوطني الحر».
رابعاً، ثمة مبالغات غير واقعية من الداخل والخارج في ما يتعلّق باقتراع المغتربين. وثمّة من يذهب في مبالغته حدّ الحديث عن انّ انقلاب التغيير سيحدثه تصويت المغتربين، رابطاً ذلك بعددهم الهائل وبالملايين في دنيا الاغتراب، وبالتالي ستنهمر الاصوات إن لم يكن بالملايين فبمئات الآلاف، في صناديق الاقتراع؟!
هنا ينبغي النزول الى ارض الواقع قليلاً، وقراءته كما هو بعيداً من أي مبالغات او تمنيات، حيث ينبغي قبل كل شيء تحديد عدد المغتربين في الخارج المسجّلين على لوائح الشطب والذين يحق لهم التصويت في الانتخابات. هنا تجيب الارقام، فالعدد الإجمالي للناخبين على مستوى كل لبنان المسجّلين على لوائح الشطب لانتخابات العام 2022 يزيد بقليل عن عدد الناخبين الذين كانوا مسجلين لانتخابات العام 2018، حيث بلغ عددهم 3 ملايين و746 الفاً و483 ناخباً، وبلغت نسبة الاقتراع آنذاك 49.2 %، اي ما يعادل نصفهم.
اما نسبة المغتربين المسجّلين على لوائح الشطب ويملكون حق التصويت، وبحسب بعض الإحصاءات الانتخابية فيقاربون 500 الف ناخب من مختلف المناطق والطوائف اللبنانية، موزعين في كل اقطار العالم، ومن بين هؤلاء نحو 150 الفاً هاجروا لبنان منذ بدء الأزمة.
وعلى الرغم من العدد الكبير للناخبين اللبنانيين في الخارج، فقد أحجمت غالبيتهم عن المشاركة في انتخابات 2018، حيث انّ عدد الناخبين المغتربين الذين تسجّلوا لممارسة حقهم الانتخابي في تلك الانتخابات بلغ 82 الفاً و965 ناخباً، لم يقترع منهم سوى 46 الفاً و799 ناخباً لكل الدوائر الـ15 المحدّدة في القانون الحالي، اي بنسبة 5.2 % من إجمالي المغتربين، وبالتالي لم يكن لهم التأثير المباشر على مجمل العملية الانتخابية، بل تأثير محدود، حيث توزعت اصواتهم وفق إحصاء «الدولية للمعلومات» كما يلي: حزب «القوات اللبنانية» 8,568 صوتاً، «التيار الوطني الحر» 8,206 أصوات، «حركة أمل» 4,731 صوتاً، «حزب الله» 4,273 صوتاً، «تيار المستقبل» 3,210 أصوات، «المجتمع المدني» 2,379 صوتاً، «الحزب التقدمي الاشتراكي» 2,226 صوتاً، «جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية» 1,324 صوتاً، حزب «المرده» 1,120 صوتاً، «حزب الكتائب» 1,086 صوتاً، ميشال معوض 867 صوتاً، حزب الطاشناق 745 صوتاً، الحزب «السوري القومي الاجتماعي» 562 صوتاً، «تيار العزم» 398 صوتاً، النائب فؤاد مخزومي 259 صوتاً، النائب نعمة إفرام 169 صوتاً، الكتلة الشعبية (ميريام سكاف) 102 صوت، النائب سيزار معلوف 104، النائب ميشال الضاهر 98 صوتاً.
الواضح من هذه الخريطة انّ أصوات المغتربين الذين اقترعوا ذهبت في غالبيتها الى الأحزاب التي تتشكّل السلطة من غالبيتها. وهذا يؤكّد انّ مزاج الناخب المغترب لا يختلف ابداً عن مزاج الناخب المقيم، وتوجّهاته. واذا كانت تطورات السنتين الاخيرتين قد أوجدت نقمة كبيرة على الاحزاب والقوى السياسية، الّا انّ ذلك لا يعني أنّ الناقمين سيقترعون لمكونات المجتمع المدني، ذلك انّ النقمة طالتها هي أيضاً لتفرّقها وتشتّتها وعجزها عن تقديم نفسها وريثة لما تسمّيها «الطبقة السياسية»، بل أنّ الغالبية الساحقة للناقمين في الداخل والخارج، ستحجم عن الانتخاب وتفضّل الإنكفاء في المنازل.
يؤكّد ما تقدّم، انّ الانتخابات النيابية وفق القانون النافذ، سواء جرت بأصوات المغتربين او من دونهم، لن تُحدث تغييراً كبيراً في النتائج على صعيد أحجام القوى السياسية والحزبية. وبالتالي، كل الضجيج المثار حول اقتراع المغتربين في هذه الفترة، هو من باب المزايدة السياسية لا أكثر.