كتب طوني فرنسيس في “نداء الوطن”:
كانت “الهجرة الثالثة” عنوان التقرير الذي أعده مرصد ادارة الأزمة في جامعة بيروت الأميركية. المشرف على المرصد والتقرير هو الدكتور ناصر ياسين الذي سيصبح وزيراً للبيئة في الحكومة الحالية ومن واجبه ان يشرح لأعضاء الحكومة معنى الهجرة الثالثة على الأقل إن كانوا على دراية بالهجرتين الاولى والثانية.
لبنان الذي يعيش اليوم ثالث كارثة مالية واقتصادية تحل ببلد منذ 150 عاماً، حسب معطيات البنك الدولي، بدأت هجرة ابنائه منذ ذلك التاريخ تحديداً. في الموجة الأولى (1860- 1916) غادره 330 ألفاً منهم، وفي الموجة الثانية (1975-1990) سافر وتشرد 990 ألفاً، وفي الثالثة التي احتدمت منذ عامين لا ارقام محددة بل مؤشرات.
77 في المئة من الشباب اللبناني سافر أو يرغب في الهجرة. الأمن العام اللبناني اصدر منذ بداية 2020 وحتى نهاية آب الماضي أكثر من 400 الف جواز سفر عدا الموجودة اصلاً لدى حامليها، وهؤلاء جميعاً إما غادروا أو انهم ينتظرون الفرصة للمغادرة. عائلات، شبان وشابات، اساتذة واطباء، امنيون متقاعدون او غير متقاعدين… الجميع يبحث عن ملجأ خارج الجحر الذي حشرته فيه مجموعة سلطة النهب والفساد والإفقار والهوبرة المسلحة.
لم تختلف اسباب موجات الهجرة الثلاث في جوهرها. كانت الأوضاع الإقتصادية دافعاً اساسياً يحرّكه وضعٌ امني طارد. بعد 1860 كانت المجازر والفقر دافعاً للفرار، وبعد 1975 أيضاً، والآن يتحالف ارباب الإفقار مع زعماء السلاح لطرد من تبقّى.
اللافت في كل مسيرة النشر والانتشار اللبنانية هذه، ان الطاردين من تحالف الإثراء والهيمنة ينفردون بسلطة بلاد الارز ثم يطلبون تحويلات مهجريهم. فعلوا ذلك في نهاية الحرب الأولى وفي مطلع التسعينات والآن اصبحت صورتهم الامنية المالية أوضح وأفقع. انهم لا يريدون مشاركة ضحاياهم في اختيار ممثليهم، فهم اصلاً طردوهم كي لا يفعلوا. فهل ينجحون؟
لا نفهم من كلام بعض التنظيمات وفي مقدمها “حزب الله” سوى منع المطرودين قسراً من بلادهم قول كلمتهم في طارديهم. الحجة المُساقة اليوم لم تطرح في الانتخابات السابقة. مع ان شيئاً لم يتغير في السياسات الدولية تجاه لبنان غير ازدياد التعاطف مع بنيه ورفض الممسكين برقابهم. هنا لا تنفع تبريرات الضغوط الامبريالية على الناخبين، فهي لا تساوي صفراً مقابل الضغوط التي تُمارس على ناخبي المذهب ومرشحيهم المعارضين في حال تجرأوا، ولا تعني شيئاً بالمقارنة مع الاستعداد لشراء الأصوات وتجييرها بالفتاوى والبطاقات التمويلية الانتخابية.
جُلّ ما في الأمر ان المتسلطين يخشون على سلطتهم. والحزب القائد يخشى على اكثريته النيابية، وموقفه مع شركائه في سلطة الأمر الواقع، قد لا يقود فقط الى الغاء انتخاب مهجري الوطن المنتشرين، وإنما الى الغاء الانتخابات برمّتها. وفي النهاية لماذا الانتخابات وما الجدوى منها اذا كانت تجارب الماضي القريب تشير الى ان القرار هو في يد الذي يمسك العصا في يد وثوب الديموقراطية المهلهل في يدٍ أخرى.