كتب شارل جبور في “الجمهورية”:
أي مراقب للمشهد السياسي اللبناني يخرج بانطباع واضح، بأنّ لبنان يحظى برعاية دولية استثنائية، في زيارات شبه يومية لديبلوماسيين غربيين وعرب تملأ الفضاء السياسي، مقابل زيارات يتيمة لمسؤولين إيرانيين.
لا يمكن الحديث عن توازن في المشهد الخارجي حيال لبنان، حيث انّ كل المجتمع الدولي في الضفة الداعمة لمشروع الدولة والسيادة، فيما إيران منفردة في الضفة المقابلة الداعمة لـ»حزب الله» على حساب الدولة والسيادة اللبنانية. وبالتالي، السؤال الذي يطرح نفسه: كيف يمكن تفسير انّ طهران تُمسك بالقرار السياسي اللبناني، مقابل فشل المجتمع الدولي في رفع اليد الإيرانية عن لبنان؟ وهل يُعقل انّ إيران أقوى من المجتمع الدولي مجتمعاً؟
ففي الشكل او المشهد او الصورة، يتغلّب المجتمع الدولي على إيران في لبنان، من خلال المساعدات الأميركية للجيش اللبناني وزيارات المسؤولين الأميركيين، إلى الدور الفرنسي والأوروبي والعربي، وما بينهما الاهتمام الدولي المباشر بالأزمة اللبنانية، حيث يقف الفاتيكان مثلاً في طليعة الدول الساعية إلى إعادة الاعتبار للدولة كمدخل لتثبيت الاستقرار.
وفي الشكل أيضاً، فإنّ زيارات المسؤولين الإيرانيين، وآخرها زيارة وزير الخارجية الإيرانية حسين أمير عبد اللهيان، تبدو هزيلة مقابل زيارات المسؤولين في العواصم العربية والغربية. وعلى رغم انّ لبنان الرسمي يدور في الفلك الإيراني، إلّا انّ استقبال المسؤولين الإيرانيين يتمّ بحذر وخجل ورفع عتب، خشيةً من ردّ فعل دولي، وبسبب معارضة شريحة واسعة من اللبنانيين للدور الإيراني في لبنان.
ومن ينظر من الخارج للمشهد اللبناني ومن دون ان يكون ملماً بأسباب الأزمة المتصلة بتغييب الدولة من قِبل حزب إيران في لبنان، يظنّ لوهلة بأنّ الأزمة مردّها إلى تعثُّر في إدارة الدولة، بفعل فساد المسؤولين الرسميين وفشلهم، وانّ المجتمع الدولي يفعل المستحيل لإخراج البلد من أزمته، وبالتالي لا يلمس الناظر من الخارج أي وجود لطهران التي تشكّل زيارات مسؤوليها إلى لبنان مجرد محطات عابرة وغير مؤثرة.
وهذا في شكل المشهد السياسي، وأما في الجوهر والمضمون، فالصورة مختلفة تماماً، حيث انّ طهران تُمسك بقرار لبنان الاستراتيجي، وتسيطر على حدوده وتمنع تنفيذ القرارات الدولية، ما يعني انّ لبنان تحت هيمنتها وسيطرتها، فيما كل دور المجتمع الدولي ينحصر في مساعدة الدولة على تجنُّب الانهيار، اي مساعدة الدولة التي تمسك إيران بقرارها.
وفي هذا المجال يمكن الكلام عن ثلاث وجهات نظر دولية:
الوجهة الأولى هي التقليدية والكلاسيكية التي يهمّها الحفاظ على الاستقرار اللبناني بمعزل عن اي شيء آخر، ولا تكترث للناحية السيادية ولا تثير هذا الأمر ولا تركِّز عليه، وينحصر اهتمامها بالإصلاحات التي على الحكومة ان تحققها من أجل ان تمدّ لبنان بالمساعدات، وبالتالي تحصر تركيزها بالشق المتعلق بفشل المسؤولين في إدارة الدولة، وهذا ما برز في أكثر من موقف دولي، وأبرزها الموقف الفرنسي الذي تجاهل كلياً مصادرة قرار الدولة من قِبل «حزب الله»، ويعمل على توفير المساعدات لإعادة إنعاش الوضع اللبناني.
الوجهة الثانية ترى وجوب تجميد الوضع اللبناني بانتظار التفاهم مع طهران نووياً، ومن ثم حول دورها في الإقليم، ما يعني ضرورة إبقاء لبنان مستقراً إلى حين الاتفاق مع إيران، في ظل تعذُّر فصل لبنان عن أزمة المنطقة. والدليل انّ سوريا التي انتهت الحرب فيها، ما زال وضعها معلّقاً ربطاً بأزمة المنطقة والهندسة التي سيُعمل عليها بعد الانتهاء من المفاوضات النووية.
الوجهة الثالثة برزت أخيراً، وعنوانها وقف أي مساعدات للبنان بانتظار حلّ أزمته السياسية المتمثلة بمصادرة «حزب الله» وخلفه إيران لقرار الدولة اللبنانية، لأنّ أي مساعدات تعني عملياً مساعدة طهران والحزب على مواصلة إمساكهما بالورقة اللبنانية، حيث انّ المساعدات تخدم عملياً الفريق الممسك بقرار الدولة ولا تخدم الشعب اللبناني.
وترى هذه الوجهة، انّ دعم الدولة للحفاظ على التوازن مع الدويلة لم يحقق الأهداف المنشودة منه، بدليل استمرار لبنان منصّة متقدّمة للدويلة، كما استمرار الأمر الواقع على الأرض هو نفسه، وبالتالي ما الحاجة لدعم الدولة طالما انّها غير قادرة على ضبط الدويلة وتطويقها وشلّ حركتها وتعطيل قدراتها؟
وترى هذه الوجهة أيضاً، انّ مرحلة الفراغ الحكومي أثبتت انّ «حزب الله» كان يريد حكومة خشيةً من سقوط هيكل الدولة الذي يحتمي به من جهة، ويسيطر من خلاله على قرار الدولة من جهة أخرى، لأنّه في حال سقوطه يتراجع إلى مربعه المذهبي ويخسر الورقة اللبنانية.
وصحيح انّ الوجهة الغالبة في هذه المرحلة هي إبقاء لبنان في ثلاجة الانتظار في ظل الخشية من انعكاسات انهياره على أكثر من مستوى، إلّا انّ رفض مدّه بالمساعدات التي تعيد تعويمه، تشكّل رسالة بالغة الدلالات، وتعني التوفيق بين وجهات النظر الدولية الثلاث على قاعدة ثلاث لاءات: لا لانهيار لبنان، لا لتعويمه، لا لحلّ أزمته بالقوة. ما يعني انّ المراوحة ستبقى سيّدة الموقف بانتظار الاتفاق مع إيران على ترسيم حدود دورها في لبنان والمنطقة.
وأما تفوّق طهران منفردة على المجتمع الدولي مجتمعاً في لبنان، فمردّه إلى وجود قوة عسكرية على الأرض والمتمثلة بـ»حزب الله». وفي ظل غياب اي توجّه دولي لوضع القرارات الدولية تحت الفصل السابع، اي رفض استخدام القوة، والأقوى دائماً هو الذي يملك مفتاح الأرض، وبإمكانه ان يحرِّك عسكره وجيشه، وهذا ما حصل في سوريا، حيث انهزمت الثورة بسبب عدم مدها بالمساعدة العسكرية خلافاً للنظام السوري الذي صمد بفعل المؤازرة العسكرية التي تلقّاها من موسكو وطهران وحارة حريك.
فالطرف الأقوى في لبنان هو إيران بسبب وجودها العسكري من خلال «حزب الله»، والحركة الدولية الناشطة جداً باتجاه لبنان غير قادرة على الموازنة مع الدور الإيراني، بفعل انّ الكلمة الفصل هي للأرض لا السياسة.