كتب جورج شاهين في “الجمهورية”:
في انتظار وصول كبير مستشاري البيت الأبيض للأمن والطاقة عاموس هوكشتاين الى بيروت، للبحث في إمكان استئناف المفاوضات غير المباشرة مع اسرائيل لترسيم الحدود البحرية، يبدو الصمت الرسمي فاقعاً. وعلى هامش الجدل القائم بين الخبراء، تتعدد السيناريوهات، ويوحي الأكثر منطقية من بينها، أن يدعو هوكشتاين الى إلغاء الخطوط البحرية، إن كان لا يزال يحتفظ باقتراحاته السابقة في غياب أي بديل. فكيف الوصول الى هذه الخلاصة؟
عندما يزور هوكشتاين بيروت في أي وقت، لمواصلة الجهود التي بذلها سلفه جون دوروشيه كوسيط مسهّل للمفاوضات غير المباشرة التي عُقدت في مقر قيادة القوات الدولية في الناقورة من أجل ترسيم الحدود البحرية بين لبنان واسرائيل، لن يكون أمام مهمّة صعبة وشاقة. فمضمونها يتناسب واختصاصه في شؤون الطاقة. فهو وسيط اميركي سابق واكب المفاوضات لسنوات عدة وزار لبنان اكثر من مرة، وآخرها كان في ربيع العام 2016، قبل إيكال المهمة الى السفير الاميركي السابق ديفيد هيل ومن بعده لديفيد ساترفيلد ومن ثم لدوروشيه.
وإلى هذه المعطيات التي تعطي هوكشتاين قدرة إضافية على مقاربة الملف بتفاصيله الدقيقة ومن مختلف جوانبه، فهو ممن شاركوا في إعداد اتفاق الإطار الذي اعلن عنه رئيس مجلس النواب نبيه بري في 1 تشرين الاول العام 2020 كإنجاز تاريخي، بعدما استمرت التحضيرات لاختيار بنوده، وما إحتوت عليه من عبارات اختيرت بدقّة متناهية، بعد مفاوضات استمرت لسنوات عدة، اقلّه منذ العام 2012، بقي فيها الملف في يد بري بتفاهم سياسي لا تفسير له قانونياً ولا دستورياً.
من الواضح انّه لن يكون صعباً على هوكشتاين معاينة الجديد في الملف. فمنذ ان توقفت الجولات الاخيرة من المفاوضات عند الجلسة الخامسة التي عُقدت في 4 ايار الماضي بطلب من سلفه دوروشيه، بعد أن اصطدمت المفاوضات بالرفض الاسرائيلي للخط 29، الذي حمله الوفد اللبناني الى المفاوضات، متسلحاً بالمعطيات القانونية التي نصّ عليها قانون البحار والقوانين والدراسات الدولية الاخرى المعتمدة في الترسيم البحري لدى كثير من الدول، بنحو لا يمكن النقاش فيه في ظل الطروحات الاسرائيلية التي كانت تستند الى مبدأ القوة بدلاً من القانون الدولي، سعياً الى تكريس امر واقع جديد يُفرض على الجانب اللبناني.
وعليه، فإنّ النقاش الدائر اليوم على مستوى الخبراء والمعنيين بالملف، حول السبل الكفيلة بالاستعداد للمرحلة المقبلة من المفاوضات، التي باتت رهناً بوصول هوكشتاين لم ينتهِ بعد الى اي سيناريو ثابت، وسط عدد من الاقتراحات المتضاربة الى حدٍ بعيد. وإن كان الفرز واضحاً بين دعاة تعديل المرسوم 6433 لتكريس الخط 29، وإبلاغه الى الامم المتحدة لتغيير قواعد المفاوضات على طاولة الناقورة متى استُؤنفت، فإنّ هناك من يقلّل من اهمية هذا الطرح، معتبراً انّه أمر شكلي. وفي اعتقاد هؤلاء، انّ الامور لا تقف عند هذا الحدّ رغم أهمية ما هو مطروح، وانّ البحث عن مصلحة اسرائيل وما يمكن ان تقوم به، يقلّل من اهمية الطرح وزاد من نسبة الإستخفاف به.
ولذلك، فإنّ الحديث عن عودة هوكشتاين الى بيروت أحيا تلقائياً طروحاته السابقة، التي لا تنسجم مع من يحملون مخارج أخرى للمفاوضات، لا تتلاقى مع كثير مما كان مطروحاً في الجولات الاخيرة من المفاوضات، وهو ما جاهر به هوكشتاين خلال زيارته الاخيرة لبيروت في 26 ايار 2016 أمام رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس الحكومة تمام سلام، ووزير الخارجية والمغتربين جبران باسيل، ووزير الطاقة والمياه ارتور نازاريان ورئيس الوزراء الأسبق سعد الحريري والمنسق الخاص للأمم المتحدة في لبنان سيغريد كاغ. كما ألقى الكلمة الرئيسية في منتدى لبنان السنوي الثالث حول النفط والغاز، الذي خُصّص لمعاينة تطورات الطاقة العالمية وأهمية احتياطي شرق البحر الأبيض المتوسط في السوق العالمية.
وإن كان منطقياً التوقّع انّ هوكشتاين لم يغيّر رأيه بعد في ما يجري على الحدود الجنوبية، فهو جاهر من قبل بعدم الاعتراف بأي من الخطوط السابقة المطروحة على طاولة المفاوضات التي سبقت الحديث عن «النقطة 29» وخلافه. فهو لا يحبّذ الاستناد ايضاً الى «خط هوف» ولا الى الخط المؤدي الى «النقطة 23 « كما بالنسبة الى الخط الذي اقترحته اسرائيل وانتهى الى «النقطة واحد»، والذي بقي طرحاً اعلامياً من باب اتقانها «الحرب النفسية» ولم تنتقل به الى طاولة المفاوضات رسمياً، فبقي اقتراحاً لقيطاً لا يستند الى أي معطى قانونياً. ولذلك كله، اقترح هوكشتاين التفاهم على منطقة مشتركة بين الدولتين، تتولّى فيها شركات معترف بها من الطرفين التنقيب وإدارة الثروة المكتشفة وتقاسم مردودها بينهما، وفق تفاهمات تُبنى على قواعد علمية معتمدة في كثير من الحقول المماثلة، وليتصرف كل من الطرفين بما تبقّى من مناطقه الاقتصادية الخالصة كيفما شاءت.
وانطلاقاً من هذه المعطيات، توسّعت دائرة التوقعات حول ما يمكن ان يقوم به لبنان، استعداداً للمرحلة المقبلة، قبيل وصول هوكشتاين، فتعددت السيناريوهات على رغم مما تحمله من رهانات قد تكون خاطئة. وإنّ من بين ما هو متوقع ان يحتفظ هوكشتاين بنظرياته السابقة، ما لم يكن للإدارة الاميركية اي تصور جديد لا علم للبنان به. فمن المنطقي ان يتصرف لبنان على انّ المفاوضات المقبلة هي مع الجانب الاسرائيلي وليس الاميركي، الذي اكتفى بلعب دور الوسيط المسهّل كما جاء في «اتفاق الإطار». ولذلك، فإنّ هناك من يعتقد انّ المصلحة الاسرائيلية قد تلتقي مع طروحات المسؤول الاميركي، بالإحتفاظ بسياسة تعليق المفاوضات، ليتسنّى لها استكمال خطط الحفر في حقل قانا اللبناني وليس في شمال حقل كاريش، كما تدّعي في مواقفها الرسمية والاعلامية. ليس من اجل التوصل الى ترسيم نهائي للخطوط بل من أجل إرباك لبنان في هذه الظروف الاقتصادية والمالية الصعبة التي يعيشها. وإن ثبت ذلك فإنّ هناك من يعتقد انّ الطرح في شأن المنطقة المحايدة او المشتركة لا فارق، سيكون أمراً معقّداً، ذلك انّ من المحتمل ان يرضي بعض الاطراف، وخصوصاً إن قال بحق الدولتين ان تأتيا بشركتين مستقلتين بعضهما عن بعض، تعملان على جانبي المنطقة، لتقدّران لاحقاً طريقة توزيع الحصص المشتركة بعد تقدير حجمها. ولذلك، فإنّ مثل هذا السيناريو ولو كان وهمياً، سيثير انقساماً لبنانياً إن اعتبر احد الاطراف انّه الخطوة الاولى الى التطبيع الاقتصادي والمالي مع اسرائيل، عدا عن العوائق التي تحول دون تطبيقه. فمثل هذا الحل لا يمكن بناؤه ما لم يتمّ ترسيم الخط البحري على سطح الماء لتقدير الثروة الموجودة تحته، ومن دونها لا يمكن تقدير حصة البلدين من الحقل المشترك، فنكون عندها في دوامة لا نهاية لها.