كتب نجم الهاشم في “نداء الوطن”:
قبل أن يعود البطريرك صفير إلى بكركي التقى رفيق الحريري في روما وكان يريد أن يبحث في موضوع لائحة الأسماء التي اقترحها لرئاسة الجمهورية. كان هناك تصميم على انتخاب رئيس خلال أيام. بعد عودته تفاجأ البطريرك بموقف السفير الفرنسي رينيه ألا المتشدّد ولم يسلم من تشدّد موفد عون العقيد عامر شهاب الذي قال له ساخراً “إن عون يسلّم غبطتك الرئاسة”. موقف عون تبلغه أيضاً المطران رولان أبو جودة ونقله إلى صفير ومفاده أنه سيحلّ مجلس النواب قبل انتخاب أي رئيس. كانت ساعات الحسم تقترب وكان الرئيس حسين الحسيني مع السفير الأخضر الإبراهيمي يؤكدان أن الإنتخاب سيحصل في لبنان أو في خارجه.
ذلك اليوم 25 تشرين الأول كان حافلاً في يوميات البطريرك في الفاتيكان. بعد وزير خارجية إيطاليا إلتقى أمين سر دولة الفاتيكان الكاردينال سودانو واستعرضا الحالة في لبنان وما تم التوصل إليه في الطائف وموقف العماد عون السلبي منه. أقرّ سودانو أن لعون فضلاً وقداسة البابا يقدِّره ويقدِّر وطنيته وتطلعاته ولا يجوز أن يُعاقب أو يُهمل، بل يجب أن يُعطى دوراً في المرحلة الجديدة. أضاف سودانو: الكرسي الرسولي يبقى في المبادئ ولا يريد أن يكون مع فئة ضد الأخرى، ولذلك لم يستقبل أحداً من النواب أو المرشحين لرئاسة الجمهورية.
عن زيارته الى موسكو قال سودانو إنه بحث موضوع لبنان مع الرئيس السوفياتي ميخائيل غورباتشيف الذي وعده بعمل ما يستطيعه مع سوريا لتحرير لبنان من جيشها، على أن يعمل الكرسي الرسولي على إخراج إسرائيل منه. أخبر سودانو صفير أيضاً “بطريقة خاصة أن الرئيس بوش خاطب قداسة البابا هاتفياً ليسأله إقناع العماد عون بعدم عرقلة الحل وفسح المجال لانتخابات الرئاسة، فأجابه قداسته إن هذه مسألة ضميرية تعود لكل شخص مسؤول”.
كان العالم كله مدركاً أهمية ما حصل في الطائف وضرورة دخول هذا المسار، ولكن عون كان خارج هذا السياق.
في ذلك اليوم أيضاً إستقبل البطريرك في مقرّه في دير المريميين في الفاتيكان النواب جورج سعادة وبطرس حرب ونصري المعلوف ورينيه معوض وخاتشيك بابكيان وميشال ساسين الذين أُطلقت عليهم في الطائف تسمية “لجنة بكركي”. جاؤوا خصيصاً من الطائف للقائه وعرضوا عليه المسار الذي أدى الى الوصول الى هذا الإتفاق، واعتبروا أن الأهم من الوثيقة كان تعهد اللجنة العربية الثلاثية ضمان الإنسحاب السوري. وأبدوا أمامه تخوّفهم من أن يمنعهم عون من العودة ومن الانتخاب، وطلبوا منه التوسط معه لعدم منع الانتخاب في قصر منصور لئلا يضطروا الى إجرائه في مكان آخر “وهذا لا يضمن كرامة العماد”.
إستمر لقاء صفير مع النواب من الواحدة حتى الرابعة والنصف. بعد ذهابهم تلقى صفير إتصالاً من رفيق الحريري الذي سأله عن النواب وعما إذا كان لا يزال موافقاً على الأسماء الخمسة التي كان قدمها، وعلى إستبدال العميد ريمون إده والعماد ميشال عون برينيه معوض ويوسف جبران. قال صفير إن القوات وافقوا على الأول لكنهم لم يعطوا جواباً على الثاني. رأى الحريري أن ما تم التوصل إليه في الطائف جيد، وأنه سمع أن العميد إده أعلن ترشحه وكذلك فاروق أبي اللمع الذي قال إنه لا يزال مرشحاً للرئاسة.
العودة من روما
يوم الخميس 26 تشرين الأول، بعد إنتهاء أعمال مؤتمر الطائف، إنتهت إقامة البطريرك صفير في الفاتيكان. غادر روما على متن طائرة شركة طيران الشرق الأوسط بصحبة المطران شكرالله حرب والخوري ميشال عويط بعدما كان انتقل من دير المريميين الى مطار فيوميتشينو بسيارة السفير غازي الشدياق. عند الساعة الرابعة وصل الى بيروت حيث كان في استقباله عدد من المطارنة والسيد عبد الرحمن الشيخة ممثلاً الرئيس سليم الحص والعميد جورح حروق عن العماد عون. وفي بكركي كانت له كلمة أخذ فيها موقفاً “يقارب الإيجابية من إتفاق الطائف”.
مهمة ما بعد التوصل الى إتفاق الطائف كانت أصعب من طريق الذهاب إليه. وكان البطريرك صفير يدرك أن الصعوبة تنحصر في إمكانية إقناع العماد عون بالسير في هذا الحل. ولكن المشكلة مع عون كانت أصعب من أن تُحلّ.
بعد وصوله الى بكركي تلقى البطريرك إتصالاً من السفير الفرنسي في لبنان رينيه آلا يطلب موعداً عاجلاً، فحُدِّد له الساعة السابعة والنصف مساء. وصل في الموعد ودام اللقاء نحو ساعة، ودار الحديث “حول الوضع العام في البلاد، وعلى المأزق الذي أوجده عون، وإصراره على رفض إتفاق الطائف ومنع النواب من إجراء الانتخابات” كما دوَّن صفير، الذي أضاف أن مخاوف عون، كما نقلها السفير ألا، هي:
1 -ربما أنه يؤتى برئيس قد يكون صنيعة سوريا، فيسلّمها البلاد، ولذلك يهمه معرفة هذا الرئيس الذي يجب أن يشترك في اختياره إن لم يختره هو.
2 -إنه يخاف على الجيش، فيُسلّم الى قائد يكون منحازاً لسوريا، فيشرذم الجيش وتستولي سوريا على لبنان.
3 -أبدى أنه لا يريد منصباً وانه يستفتي الشعب، فاذا أراد الشعب بقاءه يبقى وإلا فيذهب الى بيته.
تبيّن للبطريرك صفير من كلام السفير أنه “هو أيضاً يريد أن يعرف من هي الأسماء المرشحة. وقد سأل من طرف خفي عن لائحة الأسماء التي سبق أن قدمتها للسفير الأميركي لينقلها الى سوريا عبر العربية السعودية، والتي لم تأتِ في حينها بنتيجة”.
وبدا للبطريرك أيضاً أن “السفير حريص على العماد عون الذي يجب أن يؤمَّنَ له مخرج مشرِّف. وهذا موقف حكومته الذي رشح من حديثنا مع مدير عام وزارة الخارجية الفرنسية السيد Sheer في روما. وقد ذكرت الصحف أن الموقف الفرنسي المتريِّث، يرجع الى أن الأميركان لم يطلعوا الحكومة الفرنسية على محادثات الطائف وأنهم لم يأخذوا برأيهم”. لم يكن صفير مرتاحاً لهذا اللقاء مع السفير الفرنسي. من المحضر الذي سجّله للحوار معه بدا له أن المشكلة لا تكمن في رفض العماد عون وحده بل في موقف السفير الفرنسي وحكومته أيضاً، وظهر له أن الحل قد يكون بعيداً، وسيكتشف تباعاً عمق الأزمة.
آلية إنتخاب الرئيس
يوم الجمعة 27 تشرين الأول في اليوم التالي لعودته، زاره الأخضر الإبراهيمي. جاء من الطائف الى دمشق فبيروت، وزار العماد ميشال عون قبل أن يصل الى بكركي ليضع البطريرك في أجواء لقاءاته. قال للبطريرك “إنه مكلّف إجراء آلية الانتخاب الرئاسي الذي تحدد موعده قبل السابع من تشرين الثاني، وهذا الموعد هو الحد الأخير، وذلك لكي لا يضيع الزخم الذي نتج عن محادثات الطائف”.
سأله صفير عن موقف عون بعد لقائه معه، قال:
1 -إنه لا يزال على موقفه الرافض لأن النواب تجاوزوا صلاحياتهم، فتعاقدوا مع دولة أجنبية، وهذا حق من حقوقه بوصفه رئيس حكومة.
2 -إن النواب أقرّوا ما لا يحق لهم إقراره، من حيث إنتقاص السيادة. وهو ضدهم ولا يمكنه أن يسلّم بوجهة نظرهم.
الإبراهيمي أفصح للبطريرك أيضاً أن الملك فهد أراد باسم اللجنة الثلاثية تكريم عون من خلال دعوته الى الطائف ليشهد حفل إعلان وثيقة الإتفاق، لكنه رفض.
ناقش البطريرك مع الإبراهمي ما يمكن أن يحدث في ما اذا أصرّ العماد عون على موقفه، فتبيّن “أنه قد يصير انتخاب الرئيس خارج لبنان، ثم عندما يحاول دخول لبنان قد يصطدم بالعماد عون وتقع الكارثة. وإذا حدث ذلك يُقفل المطار والميناء ويعود الحصار وإطلاق النار. وليس السوريون هم المحاصرين بل اللبنانيون. وقد لا يجد عون دولة تعترف به إذا اقتطع لنفسه دويلة على المنطقة الحرّة، وينسحب السفراء وتعمّ الفوضى”.
تابع الإبراهيمي أنه “بإمكان العماد عون أن يتابع المعارضة سياسياً على رأس كتلة نيابية إذا شاء، هذا إذا لم يعارض عملية انتخاب رئيس الجمهورية والمؤسسات الدستورية. ليوافق على الشق الأول، أي الإصلاحات، وليعارض الشق الثاني الخاص بالسيادة وانسحاب الجيش السوري”. وأنهى الإبراهيمي اللقاء بالقول لصفير: “إني بالتصرّف فإذا احتجتم إليّ خابروني”.
السفير السوفياتي فاسيلي كولوتوشا لم يكن رأيه بعيداً عن رأي الإبراهيمي. قال للبطريرك صفير إن القبول بوثيقة الطائف خيار حسن ولا يمنع من المطالبة بالسيادة الكاملة. الرئيس شارل حلو سأل البطريرك عن إمكانية دعوة نواب لجنة بكركي للتناقش مع عون ولكنه أبدى خشيته من أن يقوم عون باحتجازهم.
قائد القوات اللبنانية سمير جعجع أبلغ البطريرك صفير في 29 تشرين الأول أنه “يوافق على وثيقة الطائف ولا يرى بديلاً منها، ولكنه لا يريد أن يصطدم مع الجنرال عون، ويرى أن نزور عون، فقلنا له إنّا سنوفد إليه المطران أبو جودة، وبعد ذلك نجمع المطارنة الموارنة ثم رؤساء الطوائف المسيحية. وبعد ذلك يتشكل وفد لزيارته لمناقشته في رأيه”. ونقل صفير عن جعجع تصوّره أن لا دخل لإسرائيل في موقف عون.
الخطة المتدرجة التي تحدث عنها صفير كانت سقطت عملياً بعد إستقباله يوم السبت 28 تشرين الأول العقيد عامر شهاب موفداً من العماد عون حيث “بدا متصلّباً أكثر من العماد عون في موقفه: هو يقول إن قبلنا وثيقة الطائف حكمنا على أنفسنا بالهلاك واستسلمنا للسوريين، وإن رفضنا سرنا الى الهلاك لكننا نحتفظ بحقنا في المطالبة به”. قال له صفير: “إذا هلكنا وزلنا فكيف يمكننا أن نطالب بحق؟ وقد يبقى لبنان لكن من دون لبنانيين لأنهم سيهاجرون”. رد شهاب: “العماد يسلِّم ريمون إده مثلاً”، وأضاف بنبرة عصبية: “يستقيل ويسلِّم غبطتك”. أجاب صفير: “هذا أمر غير وارد وليس لنا فيه شأن، ونحن مكتفون بما قسم الله لنا من نصيب”. إستخلص البطريرك أن الموقف متصلِّب.
هذا الموقف المتصلِّب تبلّغه أيضاً المطران رولان أبو جودة من عون شخصياً عندما التقاه في 30 تشرين الأول. خلاصة اللقاء نقلها صفير: “بدا على موقفه ويرى أن الوثيقة مجحفة بحق لبنان وتفقده سيادته، ويريد أن يناقش النواب في ما اتخذوه من قرار، وإذا أصرّوا على الانتخاب فسيحلّ المجلس، وخير ألا نوقّع صكّ إستسلام”.
يوم الأربعاء أول تشرين الثاني 1989 إتصل الرئيس حسين الحسيني بالبطريرك صفير ليطلعه على نيته تعيين جلسة لانتخاب رئيس الجمهورية في قصر منصور يوم السبت 4 تشرين الثاني.
إتصل به الأخضر الإبراهيمي أيضاً وقال له إنه قابل عون وإنه باق على موقفه، ولكن الإعداد للانتخابات مستمر.