كتبت ندى الملّاح البستانيّ في “الجمهورية”:
علا في الأيّام الأخيرة صوت اللبنانيّين، وخصوصا اللبنانيّات، عندما أرجّأ مجلس النوّاب مناقشة موضوع حصّة تمثيل النساء في الانتخابات البرلمانيّة المقبلة. وبعد أن تبجّحت الحكومة السابقة بنسبة تمثيل النساء فيها، تبيّن أنّ المنظومة السياسيّة اللبنانيّة الحاليّة لا تعمل سوى على مبدأ ذرّ الرماد في العيون، أو على المصادفة البحتة، وبقيت نوعا ما على مستوى «الصورة التذكاريّة» من دون تخطيط، أو نيّة حقيقيّة لتغيّر واقع المجتمع اللبنانيّ… نحو الأفضل بالطبع!
إنّ قيادة المرأة ومشاركتها في الحياة السياسيّة مهددة في المجتمعات كافّة، فهي تُمثَّل تمثيلًا ناقصًا سواء في حقوقها الانتخابيّة، أو المناصب القياديّة، أو المجالس المنتخبة، والإدارة العامّة، أو في القطاع الخاصّ، وحتّى في الأوساط الأكاديميّة. هذا على رغم كفاية النساء المتنوّعة التي أظهرنَها في قيادتهنّ وفاعليّتهنّ في التغيير، من دون ضرورة أن نذكر حقهنّ في المشاركة على قدم المساواة في الحكم الديموقراطيّ.
تواجه النساء نوعين من العقبات في طريقهنّ نحو المشاركة السياسيّة المتكافئة. فمن ناحية، ثمّة عقبات هيكليّة ناجمة من القوانين والتَمييز المؤسّساتيّ الذي لا يزال يحدّ من إمكانياتهنّ اليوم في التصويت، أو الترشّح للمناصب السياسيّة. ومن ناحية أخرى، وبسبب الافتقار إلى الوسائل، تقلّ إمكانيّة تلقّي النساء التدريب، وقيامهنّ بالتواصل، والاستفادة من الموارد اللازمة ليصبحن قياديّات ناجحات أسوةً بالرجال.
وتُعدّ الحياة السياسيّة في لبنان جزءًا من تقليد ديموقراطيّ يؤكّده دستوره وينفَّذ نظريًّا عن طريق نظامه السياسيّ، كما تتمتّع المرأة فيه بحريّاتها. لكن، ما يزال المجتمع اللبنانيّ مجتمعًا محافظًا إلى حدٍّ كبير، وغير متكافئ بأشواط في ما يتعلّق بموضوعات المرأة، لا سيّما في ما يخصّ تمثيلها في الساحة السياسيّة منذ محاولة منيرة صُلح، الناشطة من أجل استقلال بلاد الأرز، الترشُّح للانتخابات النيابيّة عام 1960.
اليوم، يحتلّ لبنان المرتبة 135 بحسب التقرير السنويّ للمنتدى الاقتصاديّ العالميّ حول التمكين السياسيّ، إذ حازت النساء في انتخابات أيّار 2018 ستّ مقاعد نيابية من أصل 128، أي نحو 4.6 % فقط. ولسخرية القدر، نجد أنّ هذه النسبة تزيد بضعفين عن الانتخابات النيابية التي سبقتها عام 2009.
وبالمقارنة مع دول أُخرى في المنطقة، يتقدّم لبنان على 3 دول ذات حضور نسائيّ أقلّ (الكويت، عُمان، واليمن)، بواقعِ نائبتين في الكويت، وواحدة في عُمان، بينما تغيب المرأة عن الحضور في المجلس اليمنيّ. وتجدر الإشارة إلى أنّ المملكة العربيّة السعوديّة، التي تُعدّ من الدول شديدة التحفّظ، رشّحت 30 امرأة في مجلس الشورى، ما منَحَهنّ 20 % من المقاعد. كما عرف العالم العربيّ أخيرا أوّل امرأة تشغل منصب رئيسة الوزراء، وهي التونسيّة نجلاء بودن رمضان.
والسؤال المطروح هنا: كيف تُدافع منظّمات المجتمع المدنيّ في لبنان عن حقوق المرأة في التمثيل والمشاركة السياسيّة في ظلّ بنية مؤسّساتيّة غير ملائمة؟ علمًا أنّه لا توجد أيّ منظومة قانونيّة تقيّد صراحةً مشاركة النساء في الحياة العامّة؟ كما أنّ الدستور اللبنانيّ واضح في مادّته السابعة التي تضمن المساواة بين الرجل والمرأة من دون أيّ تمييز.
علاوة على ما ذُكِر، فإنّ اتّفاقيّة الأمم المتّحدة للقضاء على كل أشكال التمييز ضدّ المرأة، والتي صادق عليها لبنان عام 1996، تشجّع الدول، في المادّة الرقم 4، على اتّخاذ تدابير صارمة وعلى وجه التحديد «تدابير خاصّة مؤقّتة» تهدف إلى زيادة تمثيل المرأة في الهيئات التي يتمّ انتخاب أعضائها أو تعيينهم، وفي مجالات الحياة العامّة كافّة. وقد تمّ بالفعل عقد نقاشات بما يخصّ إدخال نظام «الكوتا» النسائيّة في البرلمان على الساحة العامّة. ومع ذلك، لا يزال لبنان يعرف نسبة 30 % أقلّ من تمثيل النساء في هيئاته الحكوميّة كما أوصى إعلان بكّين في المؤتمر الرابع العالميّ للمرأة، والذي وقّعه لبنان منذ العام 1995.
إنّ معالجة مسألة الكوتا وتمثيل النساء في المجلس النيابي يُعيبها أنّها جزئيّة، فتحديد حصّة تمثيل النساء في أيّ هيئة لمجرّد وسيلة مؤقّتة ومتغيّرة يهدف إلى إبراز حضور النساء، وتأقلم المجتمع الذكوريّ حياله مع الوقت. وحتّى الإجراءات التي يمكن اتّباعها على صعيد مجتمعيّ، كتعديل قانون الأحوال الشخصيّة، وحلّ المحاكم الشرعيّة. أو على صعيد سياسيّ، كإصلاح القانون الانتخابيّ الحالي القائم على الطائفيّة والمحسوبيّة، الذي لا يُفسح مجالًا للتغيير، ولا يخلق مساحة للوجوه الجديدة. كلها خطوات مهمّة نحو تمكين المرأة لكنّها مؤقّتة وغير كافية في حدّ ذاتها، فالمطلوب أن تنخرط المرأة في الحياة السياسيّة بوجهٍ حقيقيّ، وتطالب بتكافؤ الفرص بحسب المؤهّلات بغض النظر عن الجنس.
ومن منظور اقتصاديّ، يصعُب الحصول على بيانات كميّة عن مشاركة المرأة في مجالات العمل المتنوّعة في لبنان، لكن ثمّة تقارير تتحدّث عن تشكيل المرأة نحو 22 % من القوى العاملة. إنّ غالبية النساء العاملات من الشابات، ويتركن وظائفهنّ بطريقة رسميّة بعد الزواج أو الإنجاب. كما تميل النساء إلى التجمّع في الوظائف ذات الأجور الأقلّ، وقليل منهنّ يشغلن مناصب إداريّة أو مناصب عُليا. وعلى رغم أنّ قانون العمل اللبنانيّ يكرّس مبدأ الأجر المتساويّ في الأعمال المتساويّة، ثمّة فجوة كبيرة في الأجور بين الرجال والنساء… بالطبع لمصلحة المكوّن الذكوريّ.
أمّا في ما يخصّ القطاع التعليميّ، فقد تحسّنت الإحصائيّات التي تتناول تعليم الفتيات بنحو جيّد في الفترة الأخيرة. فالتعليم العالي والمهن الأكاديميّة هي أيضًا منصّات تقود نحو مستويات أعلى في المشاركة السياسيّة، وغالبًا ما تكون مفتاحًا لاستراتيجيّات صعود الهرم السياسيّ: من الاستثمار في تعليم الفرد الى التطوّر في السياسة، ثمّ الحصول على الدرجات الجامعيّة العُليا، حتّى الكفاية المهنيّة لتولّي المناصب الإداريّة.
في الوقت الحالي، تمثّل المرأة شريحة غير مستغلّة من القوى العاملة اللبنانيّة، على رغم أهليّتها الأكاديميّة والمهنيّة. وبالطبع، فإنّ مشاركة المرأة في سوق العمل تعود بالفوائد على المستويّين الجزئيّ والكلّي، إلّا أنّ نسَب مشاركة المرأة في أسواق العمل في البلدان العربيّة لا يزال الأضعف عالميّا.
أمّا أسباب حضور المرأة الخجول في الحياة السياسيّة اللبنانيّة فتعود إلى المنظومة الاجتماعيّة-الاقتصاديّة في المقام الأوّل، خصوصا أنّ الفوارق بين دخل الرجال والنساء واضحة، على رغم حقيقة أنّ النساء قد تجاوزنَ الآن نظرائهنّ من الذكور في التعليم الثانويّ والعالي، إلّا أنّ هذا الواقع لا يُترجَم إلى تكافؤ في الفرص في سوق العمل، حيث تحصل النساء على ثلث عدد الوظائف التي يشغلها الرجال.
كما يُعدّ توزيع العمل داخل الأُسرة أحد العوامل التي تُحدّد أولويّات المرأة، ويقلّص من فرصها للانخراط في المعترك السياسيّ، إذ أنّ بنية المجتمع اللبنانيّ هي أساسًا ذكوريّة، فيُعدّ الرجل مركز الأسرة، والوحدة الاجتماعيّة، والوحدة المؤسّساتيّة. بينما تحاول النساء على وجهٍ متزايد تحقيق التوازن بين متطلّبات الوظيفة، والأسرة والأعمال المنزليّة. في ظلّ هذه الظروف، نجد أنّ الخيار الأوّل الذي يتمّ التضحية به هو النشاط السياسيّ. فمن النادر أن نجد امرأة ذات مؤهّلات تعليميّة عالية تهتمّ بالشأن السياسيّ، وتتمتع بوضع ماليّ وعائليّ يسمح لها بالمشاركة الفاعلة الحقيقيّة، إلّا داخل العائلات ذات الموروث السياسيّ.
لذلك، وعلاوة على ما ذكرناه، نجد أنّ بناء مجتمعات أشدّ إنصافًا وشموليّة أحد التحدّيات الرئيسيّة التي سنواجهها في المستقبل القريب، فيجب علينا تطوير اقتصاداتنا وضمان الازدهار المشترك بين الدول والشعوب جميعها. ومن البديهيّ أن نجد أنّ استبعاد نصف سكّان المعمورة بما تمثّله من النساء والفتيات، لا بدّ أنّه يُفقدنا مزايا مشاركتهنّ.
إنّ تعزيز مشاركة المرأة في المجالات الاقتصاديّة والسياسيّة، والعمل على تحقيق مزيد من المساواة، هو أحد ركائز الاقتصاد السليم. فوفقًا لشركة الاستشارات الإداريّة «ماكينزي»، عرفت الشركات التي تضمّ عددًا أكبر من النساء في المناصب العُليا ربحية وكفاية أكبر.
في ظلّ كفاح العالم عموما ولبنان خصوصًا للخروج من حالة عدم الاستقرار الاقتصاديّ، ما الذي ننتظره للاستفادة من «رأس المال البشريّ» الثمين الذي تقدّمه إلينا المرأة في مجتمعاتنا؟
يجب أن يتوازى تمكين المرأة مع ثقتها بنفسها وتعزيزها قدراتها لكي ترتقي لتولّي المناصب القياديّة في القطاعين العام والخاص. فتعزيز مشاركة المرأة في الاقتصاد، ودعم كفايتها وإنتاجيّتها سيؤدّي دورًا حاسمًا في القدرة التنافسيّة ونموّ اقتصاد لبنان. لذلك، نحن في حاجة إلى مراجعة أنظمتنا القانونيّة والتنظيميّة وإصلاحها، لكي تتمكّن النساء أنفسهنّ من الاستفادة من النطاق الكامل للخدمات الماليّة المقدّمة، لتساعد في ضمان عدم إجبار النساء على التنازل عن سلامة أطفالهنّ من أجل متابعة حياتهنّ المهنيّة.
إنّ العهد الذي ينتظره لبنان مستقبلًا هو عهد الاندماج والمشاركة. وستتطلّب هذه التغييرات إرادة سياسيّة قويّة، كما ستكون التغييرات الثقافيّة والسلوكيّة ضروريّة، وستتطلب مقدارًا لا بأس به من الإرادة في شرائح المجتمع كافّة، خصوصًا عند المرأة نفسها. ويتطلّب الأمر قيادة مشتركة بين الحكومات، والمجتمع المدنيّ، والقطاع الخاصّ. لذلك يجب على اللبنانيّ أن يكون مثابرًا وشاملًا في نهجه لتمكين المرأة اللبنانيّة. وعليها هي بدورها أن «تُشمّر عن ساعديها» وتواصل كفاحها، وتروّج لقضيّتها بما تعرفه من «عنادٍ» إيجابيّ.
أخيرًا، نَعي تمامًا أنّ «المرأة هي الأمّ والزوجة والأخت والشريكة…»، لكن لا ينفع أن نبقى على مستوى التصريحات المنمّقة، بل يجب أن نوجد تدابير مؤاتية لتعزيز حضور المرأة ومشاركتها في صناعة القرار في كل المجالات الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة، كونها عاملة، ومنتجة، وموظّفة، ومديرة، ومسؤولة منتخَبة، وناشطة في المنظّمات والنقابات، ومربيّة في أسرتها. وعلاوة على ما ذُكر، حرّة في قراراتها وتمثيلها.
كما يجب اعتماد تدابير تهدف إلى القضاء على الانحياز القائم على الجنس المتغلغل في النظام التعليميّ، والثقافيّ، والمؤسّساتيّ وغيره، ومكافحته خصوصا في سوق العمل والحياة السياسيّة. لأنّ أصوات النساء ليست ذات قيمة مضافة وحسب، بل تؤدّي دورًا محوريّا في تعميم ثقافة السلام، وتعزيز المصالحة، وإعادة الإعمار، والانتعاش، تلك الأمور التي طال انتظارها في بلدٍ مفعم بطاقاته النسويّة مثل لبنان.