Site icon IMLebanon

هل يُعيد سوق بيروت للخضار مجد سوق النورية؟

كتبت زيزي إسطفان في “نداء الوطن”:

سوق خضار مركزيّ تحلم به العاصمة بيروت منذ العام 2000، مشروع رائد بمواصفات نموذجية وُعد به أهل العاصمة والمناطق المحيطة، وخُطط له أن يكون تجمّعاً عصرياً لتجار الخضار والفاكهة بالمفرق يعيد إليهم دورهم المركزي في الحركة التجارية للعاصمة ضمن إطار هندسي راق وتجهيزات تقنية عالية المستوى. حلم استغرق خروجه الى الضوء قرابة الـ21 عاماً لكن وثيقة ولادته لا تزال مفقودة وخطواته الأولى متعثرة إن تم الاحتفال رسمياً بالولادة ووزّع المغلي على المسؤولين والتجار. قصة سوق الخضار المركزي في بيروت تستحقّ أن تروى.
سوق النورية، سوق الفرنج، سوق الأرجنتين أسماء لأسواق خضار رافقت تاريخ بيروت وكانت لولب حركة البيع والشراء فيها ونقطة محورية في ازدهارها. في عجقة هذه الأسواق وأمام بسطاتها ودكاكينها الخشبية كان يعلو صراخ الباعة وتتداخل روائح الخضار والفاكهة الطازجة مع العفنة منها ويلتقي القادمون من كل مناطق لبنان ليفاصلوا ويساوموا ويعودوا محمّلين الى بيوتهم بمؤن الأسبوع من فاكهة وخضار بأبخس الاسعار.

اختفى سوق النورية واختفت أسواق الخضار الأخرى مع تبدل وجه العاصمة ودورها وطابعها الشعبي لكن الحنين الى هذه الأسواق لم يخبُ يوماً ولا سيما في قلب من عاشوا فيها وورثوا مصلحتهم في بيع الفاكهة والخضار أباً عن جدّ، ولا يزالون حتى اليوم يبحثون عن بديل يعيد إليهم عزّ تلك الأيام. مع نشوء سوليدير تغيرت العاصمة وضاعت أسواقها وتحولت الحقوق أسهماً في الشركة. حينها اجتمع أصحاب الحقوق في أسواق الخضار في الوسط التجاري مع الرئيس رفيق الحريري ومحافظ بيروت ورئيس بلديتها واتفقوا على أن تقيم بلدية بيروت أسواقاً بديلة على أرض تختارها وتستملكها وتبني عليها مجمعاً حديثاً يكون سوقاً للخضار والفاكهة بالمفرق يجمع اللبنانيين كما كان يفعل سوق النورية.

جهوزية لم تكتمل

في العام 2000 أنطلقت الفكرة وتم استملاك أرض تعرف باسم أرض جلول تقع خلف جامع الخاشقجي في منطقة قصقص من قبل بلدية بيروت وتم تلزيم بناء السوق الى شركة الجهاد التي فازت بالمناقصة وعُهد الى مكتب المهندس الاستشاري عبد الواحد شهاب مهمة تصميم وتنفيذ المبنى وذلك بتمويل من البلدية وتحت إشرافها. وعلى مدى عقدين كاملين كثرت الأقاويل حول كلفة متر البناء الشديدة الارتفاع وتصاعد الجدل حول جدوى هذا المشروع وتكلفته وظلت الأعمال في المبنى تراوح بين أخذ وردّ حتى أنجز كاملاً وصار جاهزاً لاستقبال التجار والمستهلكين.

لكن هذه الجهوزية لم تكتمل عناصرها وفق ما يرويه لـ”نداء الوطن” الحاج سهيل المعبي رئيس نقابة تجار الخضار والفاكهة بالمفرق الذي شرح أن بلدية بيروت ورغم مرور عقدين لم تسجل العقار المخصص للمنفعة العامة في الدوائر العقارية باسمها ولم تسجل كذلك المبنى الذي تم إنشاؤه. ولم يعمل محافظ بيروت الأسبق زياد شبيب على بت عملية التسجيل والإسراع فيها الى أن جاء المحافظ الحالي القاضي مروان عبود وأخذ على عاتقه قضية تسجيل العقار باسم بلدية بيروت ليصبح بالإمكان بدء العمل في الأسواق رغم أن كلفة تسجيل العقار اليوم صارت أعلى بكثير وارتفعت قيمته التأجيرية بعد ان تم إنشاء مبنًى عليه ولم يعد أرضاً بوراً.

هي قصة من قصص الإهمال الكثيرة التي حرمت بيروت وضواحيها لسنوات من سوق خضار نموذجي يرفع مستوى المنطقة خدماتياً ويقدم للعامة أفضل الخدمات والأسعار ويخفف من ظاهرة تفشي عربات بيع الخضار على الأرصفة والشوارع بشكل عشوائي، لكن يبدو ان الأمور على طريق الحلحلة والسوق جاهز للبدء بالعمل.

مشروع نموذجي

بفخر وحماسة يتحدث الحاج سهيل المعبي عن السوق من موقعه كـ”بي الصبي” قائلاً انه يمتد على مساحة 10800 متر و37000 متر “عمار” تتوزع على ثمانية طوابق وتضم 160 محلاً و94 بسطة ويمكن زيادة عدد البسطات في الفراغات المتوافرة لتصل الى 124 واحدة. وسيضم كذلك خمسة برادات ومخمر موز وفرناً وصيدلية ومخفراً للشرطة ومركزاً لإطفائية بيروت وآخر للحرس البلدي مع 580 موقفاً للسيارات. “مول” عصري مرتب وأنيق مزود بكل التجهيزات لإراحة الباعة والمستهلكين وقد أعد المحافظ خطة سير خاصة في محيط السوق لتسهيل عملية الوصول إليه والخروج منه.

تشغيل السوق وصيانته وتوزيع المحلات والبسطات فيه لا شك عملية دقيقة ويقول المعبي انه سيتم التعاقد مع شركة مختصة لتتولى عمليتي التشغيل والصيانة والحفاظ على النظافة اما توزيع الأماكن فيه فيبدو النقيب صريحاً بالقول أنه سيذهب الى المنتسبين القدامى لنقابة بيع الخضار والفاكهة بالمفرق أي الذين كانوا أباً عن جدّ يملكون بسطات ومحلات في أسواق بيروت، لأن هؤلاء أولى من التجار الجدد إضافة الى كونهم من الأقوياء في المصلحة وقادرين على تفعيل حركة السوق، أما المساحات الفائضة فسيتم عرضها على التجار الجدد. كذلك لن يتم طلب إيجارات محددة من شاغلي الأماكن بل ستعتمد طريقة جديدة حيث تتولى الشركة المديرة تحديد كلفة التشغيل والصيانة ومختلف الأعمال شهرياً ثم تتم قسمة الكلفة الإجمالية على التجار وتُدفع لبلدية بيروت ضريبة الأملاك المبنية. لكن حتى اليوم لم يبدأ توزيع المساحات بعد بانتظار ان يتم تسجيل العقار وموافقة البلدية على أن يتم إنشاء لجنة إشراف عليا على السوق من البلدية والنقابة.

أهمية السوق متعددة الاتجاهات يقول النقيب وتكمن أولاً في القدرة على ضبط أسعار الفاكهة والخضار ومنع ارتفاعها بشكل جنوني ومنع المزاجية في التسعير وهو الأمر الذي يعاني منه المواطنون اليوم، بحيث يستحصل التجار على فواتير باسمهم من سوق الخضار بالجملة ويضيفون إليها 30% وهي النسبة التي تسمح بها وزارة الاقتصاد، كذلك تعمل المنافسة داخل السوق على توفير أفضل الأسعار التي يستفيد منها المستهلكون.

من جهة أخرى وهي النقطة التي يركز عليها المعبي سوف يحل السوق المركزي محل كل الأسواق الشعبية في المناطق مثل سوق صبرا الذي لا يبعد عنه إلا عشرات الأمتار وينهي ظاهرة العربات العشوائية التي تحتل الشوارع والأزقة وظاهرة بيع الخضار على الأرصفة بدون إذن أو رخصة.

إشكاليات وعداوات

أكثر من إشكالية يخلقها وجود السوق وأولها قطع أرزاق بائعي الخضار سواء المتجولين أو الثابتين، لكن الحاج المعبي يؤكد أن غالبية محال الخضار العاملة في بيروت او المناطق لا تملك رخصة من البلدية لبيع الخضار ولا إذناً من النقابة ولا تدفع ضريبة للدولة عن تجارتها هذه من هنا ضرورة السعي لإجبار هؤلاء التجار على تصحيح أوضاعهم ودفع الرسوم البلدية والالتزام بالأسعار التي تضعها النقابة حتى يتمكنوا من منافسة السوق. اما الإشكالية الثانية فهي البسطات والعربات في الطرقات وعن هؤلاء يقول المعبي ان 90% ممن يعملون عليهم من غير اللبنانيين وهم يعملون بشكل عشوائي ويضاربون على بائعي الخضار المنتسبين الى النقابات لذا فإن منعهم يكون لصالح السوق والمستهلكين رغم أن الأمر لن يعجب الكثيرين وسيخلق عداوات لا سيما من قبل من يؤجرون البسطات وقرار إزالتها ومنع العربات يعود الى وزارة الداخلية ولكن وجود السوق بأسعاره المضبوطة ينفي الحاجة إليها.

ومع البسطات تطرح مسألة الأسواق الشعبية التي باتت في زمن الغلاء الفاحش والقلة حاجة عند اللبنانيين والمقيمين فيه من أبناء المخيمات الفلسطينية واللاجئين السوريين وهل يمكن الاستغناء عن هذه الأسواق وحرمان الفقراء منها ولا سيما أنها الوحيدة التي لا تزال في متناول يدهم؟ المعبي يؤكد ان سوق الخضار المركزي سيكون بديلاً عن الأسواق الشعبية بمنتجات واسعار أفضل وظروف بيئية وتقنية أعلى، لكن هل يمكن استئصال أسواق باتت متجذرة في المناطق ويوميات الناس وحرمان اصحابها من مردود يعتمدون عليه وزبائنها من أماكن ألفوها وبضائع تناسب ميزانياتهم المحدودة.

مركزية السوق وتجار المناطق

وأخيراً لا بد من طرح إشكالية متعلقة بمركزية السوق وتواجده في بيروت. ماذا عن المحافظات والمدن الأخرى والأطراف كم يمكنها الاستفادة من السوق؟ يقول النقيب ان النقابة تطالب بإنشاء أسواق مركزية في كل محافظة وفي المدن الكبيرة مثل طرابلس وصيدا وهي قادرة على إنعاش تجارة الخضار والفاكهة في المناطق وتقديم الأفضل للتجار والمواطنين. لكن حتى اليوم لا يزال هذا في إطار المطالبة وربما الأمنيات ولا شك ان أمور بيع وشراء الخضار والفاكهة ستبقى على حالها في المدى المنظور.

لامركزية الأسواق!

نسأل شربل زغيب تاجر خضار في منطقة طبرجا الكسروانية عن تأثير سوق الخضار المركزي في بيروت على عمله وإن كان السوق قادراً على منافسة تجار الخضار في المناطق؟ فيجيب أن من يسكن في منطقة كسروان مثلاً يصعب عليه ان يقصد بيروت لشراء خضاره لأسباب كثيرة أولها غلاء البنزين وزحمة السير وضيق وقته. ويسأل في المقابل مَن مِن سكان المناطق البعيدة مستعد أن يصرف صفيحة بنزين للوصول الى بيروت ليوفر ربع ثمنها أو أقل في سعر مشترياته؟ الناس اليوم يلجأون الى المحلات الأقرب كما ان الشراء من محلات الخضار في القرى أمر متجذر في ضمير أهلها ولا سيما ان معظم الناس تربطهم علاقة قربى أو صداقة مع صاحب المحل ومن الصعب استئصال العادات الراسخة. ومن جهة أخرى لبنان حافل بالقوانين ومحاولات ضبط الأسعار وتنظيم الأعمال لكن العبرة تبقى في التنفيذ. أما إذا أقيمت أسواق مركزية في كل قضاء فحينها يمكن أن يكون تأثيرها كبيراً لكنه أمر لا يزال بعيداً حتى اليوم.

من جهة أخرى نطرح السؤال نفسه على أحد أصحاب الحسبات الكبرى في سوق خضار الجملة في سن الفيل عن تأثير السوق على تجار الجملة فيجيب بأن تاثيره عليهم لن يكون سلبياً بالطبع بل سيخلق ديناميكية جديدة في تجارة الخضار والفاكهة وسيسهل عملهم ويزيد من الاستهلاك ويخلق تنافساً مطلوباً بين مختلف أسواق الجملة. لكنه يرى أن السوق رغم أهميته لن يستطيع ان يمنع محلات الخضار في بيروت والمناطق من الاستمرار في عملها والغد لناظره قريب.