كتب نجم الهاشم في “نداء الوطن”:
على رغم كل التأكيدات أن العماد عون لن يسلّم بانتخاب رئيس جديد للجمهورية وعلى رغم تدخّل الفاتيكان معه لإقناعه بالسير بالحلّ وعلى رغم معرفته بالجو العدائي تجاهه لم يتوان البطريرك صفير عن التوجه إلى بعبدا ولقاء عون في محاولة أخيرة لتلافي الإنقسام خصوصاً في الصف المسيحي ولكن عون بقي مصراً على الرفض المطلق من دون أن يكون لديه أيّ تصوّر لمخرج مختلف. قرار عون بحلّ مجلس النواب قبل جلسة 5 تشرين الثاني لانتخاب رئيس جديد للجمهورية في قاعدة القليعات الجوية كان مقترناً بقرار مماثل بالإعتداء على البطريرك صفير. بعد انتخابه رئيساً للجمهورية كان الرئيس رينيه معوّض ينتقل إلى إهدن بينما كان البطريرك صفير ينتقل فجراً إلى الديمان وكان العماد عون متمسكا بموقعه في قصر بعبدا. تلك اللحطة لك تكن نهاية المآسي كما كان يراد لها. أيام الجنرال لم تنته في قصر بعبدا وكانت إقامته هناك ممهدة لمواعيد جديدة مع العنف والقتل من حرب الإلغاء إلى عملية 13 تشرين. بقي البطريرك صفير في بكركي مقاوماً حقيقياً للإحتلال السوري وذهب عون إلى منفاه وعاد في 31 تشرين الأول 2016 رئيساً للجمهورية إلى قصر بعبدا متماهياً مع النظام السوري في ظلّ تحالفه مع “حزب الله” ومتمسكاً بصلاحياته التي نص عليها إتفاق الطائف ولم يقبل بها قبل 30 عاماً.
في ظل هذه الأجواء إنعقد في بكركي إجتماع رؤساء الطوائف المسيحية من دون أن يكون هناك تصوّر وقرار للخروج من المأزق. قبل الإجتماع الذي بدأ في الساعة العاشرة، وصل الى بكركي السفير البابوي بابلو بوانتيه الذي أبلغ صفير أن عون إستدعاه ليقول له إنه سيحلّ المجلس. وبعد مناقشته في هذا الأمر، قَبِل عون أن يصير انتخاب رئيس المجلس ورئيس الجمهورية على أن يرُجأ التصويت على وثيقة الطائف. ولكن تبيّن أن هذا الشرط مستحيل لأن الوثيقة تشكّل وحدة، فلا انتخاب من دون تصديق. نقل السفير أيضاً أن عون قَبِل أن يجتمع مع النواب في السفارة البابوية.
حضر السفير البابوي جانباً من إجتماع رؤساء الكنائس وقد تقرر إيفاد أربعة مطارنة لمقابلة عون هم أبو جودة وعودة وجميل وكشيشيان، فذهبوا فوراً. بعد اللقاء عاد أبو جودة ليبلغ صفير أن عون يرضى بأن يجتمع النواب في بكركي. عون إقترح أولاً أن يكون اللقاء في السفارة البابوية على خلفية أن البطريرك صفير قال إنه (أي عون) سيخطف النواب، وقد قال ذلك للنكرزة ليس إلا كما لاحظ صفير. عون قال أيضاً إنه سيناقش النواب، فإذا أقنعوه سمح بانتخاب رئيس وإذا لم يقنعوه، حلّ المجلس. “ولكنه هو من يدعو النواب الى المجيء من الخارج لأننا لا يمكن أن نأخذ على عاتقنا ضمانهم وضمان حريتهم”، كما دوَّن صفير.
هذا الجو المتشدّد عند عون لم يكن عند داني شمعون رئيس حزب الوطنيين الأحرار الذي قابل صفير “وبدا مرتاحاً للنتائج. وقال إن العماد عون لن يستطيع الوقوف في وجه الانتخابات وإذا حلّ المجلس، فلن يدخل السوريون الى المناطق الشرقية والعماد عون يبقى وحده ويقطع عنه الرئيس الجديد الأموال لدفع رواتب جيشه وموظفيه، ولا يلبث أن ينتهي. وأضاف شمعون: يوم الجمعة الفائت رأيته ومنذ ذلك اليوم لم أعد أراه، وبيننا فتور. وقال “إنه يرى أن الرئيس سليمان فرنجية يصلح في الفترة الحاضرة لرئاسة الجمهورية لمدة سنتين فقط، فهو صديق السوريين ويرضى به معظم اللبنانيين رئيساً”.
عون: لنتفق مع اليهود
كل هذه الأجواء السلبية لم تمنع صفير من إستنفاد كل الوسائل الممكنة. وعلى رغم معرفته الأكيدة من موقف عون لم يتوانَ عن زيارته يوم الخميس 2 تشرين الثاني الساعة العاشرة صباحاً. رافقه في الزيارة نائباه المطرانان رولان أبو جودة وبشارة الراعي في سيارة واحدة هي سيارة البطريركية وقد تقدمهم درّاج وجيب ليشق الطريق التي كانت مزدحمة بالسيارات. لاحظ صفير أن القصر ازداد خراباً وقد استقبله عون على الباب الداخلي بعدما أدت له التحية ثلة من الحرس الجمهوري. وبعد إلتقاط الصور، قال صفير لعون: نهنئكم لأنكم خرجتم من الملجأ وجئتم الى الطابق الأرضي. جئنا لأن الظرف يقتضي أن نلتقي على ما قلنا لدولتكم في أثناء المكالمة الهاتفية التي أجريتموها معنا إثر عودتنا من روما. ونلتقي لنرى أين وصلنا. إنَّا نخشى إنقسام الصف المسيحي، وهذا ما نبّهنا إليه يوم كنا في روما عندما جرت بيننا مكالمة هاتفية.
بعد ذلك، يقول البطريرك إنهما دخلا في صلب الحديث. “جاء عون بالوثيقة التي وُضعت في الطائف وراح يقلِّبها صفحة صفحة ويشير الى ما فيها من ثغرات، من مثل نقل صلاحيات رئيس الجمهورية الى رئيس الحكومة، ولم يعد للأول ما يمكنه من وسائل لإصلاح الخلل أو إيقاف قانون مجحف بحق المسيحيين”.
وحدّد صفير بعض النقاط التي تطرق إليها عون مبدياً رأيه فيها ومنها:
* إلغاء طائفية الوظيفة: أصبح بالإمكان تعيين قائد للجيش من الطائفة الإسلامية، وسامي الخطيب مستعد لتولّي المنصب.
* السلطة ستنتقل من المنطقة الحرة الى المنطقة المحتلة، وبإمكان رئيس الحكومة أن يفرض ما يريد وليس من يقف في وجهه.
* السيادة مبهمة، غداً قد يدخل الجيش السوري بعبدا وبكركي.
أضاف البطريرك صفير الى هذه النقاط عبارة لها دلالاتها عندما أضاف إليها عبارة “وما سوى ذلك من آراء كلها تشاؤم”.
كان صفير يدرك من خلال أقوال عون أنه يُظهر سلبيات غير مقنعة ولا تطابق الواقع، وربما كان يريد أن يهوِّل عليه. لقد أظهرت التطورات اللاحقة أن الجيش السوري دخل فعلاً الى بعبدا ولكن بسبب سياسة عون ومواقفه، وأنه لم يستطع أن يدخل بكركي حيث تحوّل صفير الى المقاوم الأول لهذا الإحتلال السوري حتى تمكّن من الإنتهاء منه بعد 15 عاماً.
رداً على سلبيات عون قال البطريرك:
*لا يمكننا ولا نريد أن ندافع عن الوثيقة، لكننا إستناداً الى ما قاله النواب الذين زارونا في روما، نقول إن الوثيقة قالت بلبنان وطناً نهائياً على الرغم من تحفظ ميثاق الجامعة العربية الذي يقول بالوحدة.
*رئيس الجمهورية بإمكانه أن يقيل الحكومة بدعوته ثلث الوزراء المسيحيين الى الإستقالة، ولا يمكنه كالسابق إبقاء القانون في درج مكتبه الى ما شاء الله.
*مجلس الأمن أصدر قراراً وافق فيه على الوثيقة وضَمِن السيادة. على هذه النقطة رد عون: الشق الأول من القرار يلغي الشق الثاني، لأن الوثيقة تقول بالإتفاق الثنائي بين لبنان وسوريا، والإتفاقات الثنائية تلغي القرارات الصادرة عن جهة عامة.
*كل الدول وافقت على وثيقة الطائف وليس منها واحدة معنا. ويقول الكاردينال أوكونور إن الله، تمجّد إسمه، لو رشح نفسه لرئاسة جمهورية الولايات المتحدة ولم يسانده اليهود لا ينجح.
رد عون: لنتفق إذاً مع اليهود. علّق صفير: كيف السبيل الى الإتفاق وهم الذين هجّروا المسيحيين من الشوف ولا يزالون يحتلون الجنوب ويعرفون أن ليس بين دول المنطقة دولة تزاحمهم غير لبنان، لذلك خربوه؟ قد تدخل سوريا الى المنطقة الحرة وتعود الحرب مع الاشتراكيين. أجاب عون: ليس عندهم ذخيرة.
تطرق الحديث الى المرشحين للرئاسة بعد أن غادر المطرانان أبو جودة والراعي ليتركا لصفير وعون حرية التحدث عن الأسماء. قال عون: سيجري الانتخاب ولم يباحثني أحد به، كأني غير موجود. بلغني أنهم يرشحون رينيه معوض وقد عرفت أنه ذهب منذ زمن بعيد الى دمشق سرّاً في سيارة الحسيني. فهل هذا من يريدونه رئيساً؟ من الأفضل إنتخاب الرئيس فرنجية لسنتين ومعوض رجل صفقات.
عند هذا الحدّ بدا للبطريرك صفير أن الحوار مع عون سيبقى من دون نتيجة، وكان خوفه الكبير من حصول إنقسام كبير في الصف المسيحي. وكان مدركاً أهمية الغطاء الدولي لوثيقة الطائف ولخطورة إستمرار عون في الرفض. بعد عودته من بعبدا إستقبل الدكتور سمير جعجع في بكركي “وكان رأيه إجراء الانتخابات في موعدها، وأن الفرصة مناسبة للبنان، وأن المرشح هو رينيه معوض وسوريا لا تريد أن يأتي سليمان فرنجية لأنه لم يفتح جبهة المدفون”.
الفاتيكان وساعة الحقيقة
يوم الجمعة 3 تشرين الثاني إتصل جان عبيد بالبطريرك وتمنى عليه إقناع عون بالقبول بالإجتماع بالنواب بعدما رفض الحديث مع بطرس حرب وكاظم الخليل اللذين اتصلا به من باريس وقال لهما الموظف “عون يكلمكم عندما تأتون الى لبنان”.
الأخضر الإبراهيمي أيضاً إتصل ونقل الى صفير أن اللواء نديم لطيف ممثل عون في اللجنة الأمنية أخبره أن عون يرفض الخطة الأمنية ولا يتعاون لإعداد قصر منصور لإجراء الانتخابات، ولذلك تمّ تأجيل الجلسة. النائب ألبير مخيبر زار صفير في بكركي وأبلغه أنه كان عند عون وبدا له مصمماً على حلّ المجلس.
ضمن هذه الأجواء المنذرة بالمخاطر تم تحديد موعد إنعقاد جلسة انتخاب رئيس الجمهورية في مطار القليعات في عكار يوم الأحد 5 تشرين الثاني. كان القرار بالحسم قد اتُخذ بحيث يتم نقل النواب من الخارج بالطائرات الى المطار مباشرة، وقد تم إعداد مدرجه على عجل لتأمين هبوط آمن للطائرات في جو سياسي غير آمن.
فجر السبت 4 تشرين الثاني، أصدر عون مرسوماً حلّ بموجبه مجلس النواب ودعا الى انتخابات عامة بغض النظر عن شرعية هذا المرسوم من عدمها. ذلك اليوم زار السفير البابوي العماد عون في بعبدا ثم توجه الى بكركي لوضع صفير في أجواء اللقاء ناقلاً إليه بحضور المطرانين أبو جودة والراعي أنه “أبلغ عون أن الفاتيكان ضدّ حلّ المجلس النيابي وضدّ تقسيم لبنان، وأن ساعة الحقيقة قد دقّت وأن إختيار الشر الأهون هو الأسلم، وأنه مع انتخاب رئيس للجمهورية ومع مؤسسات دستورية. هذا رأي الكنيسة ولا مجال للحياد في هذا المجال”. طلب السفير من عون أن يعمل شيئاً ليعود عن قراره إذا كان بالإمكان، واعتبر أن حلّه للمجلس غير قانوني. ولكن عون كان في وادٍ آخر وفي عالم آخر هو عالمه الخاص المنفصل كلياً عن الواقع.
الإعتداء على البطريرك
بعد ظهر ذلك السبت، وصل الى بكركي “المسؤول عن الأمن في جونية وقال إن تظاهرة ستتجه الى الصرح غداً الأحد لإقامة جنّاز لجورج سعادة، وسأل عما يمكن عمله. قال له صفير: ليتظاهروا في الساحة، ولكن يجب منعهم من دخول الكنيسة”. قبل هذا التحذير الرسمي كانت “القوات اللبنانية” قد نقلت الى البطريرك معلومات عن التحضير لتظاهرة عونية نحو بكركي، ولكنه لم يأخذ المسألة بطريقة جدية، حتى تقاطعت لديه المعلومات. لم يؤثِّر هذا التهديد بالتظاهر الى بكركي في صلابة موقف صفير فتحرك في الإتجاه المعاكس. أوفد المطرانين أبو جودة والراعي فوراً الى بعبدا للقاء عون وكلّفهما إبلاغه “أن موقفنا هو موقف الفاتيكان، وأنّا ضد التقسيم ومع انتخاب رئيس للجمهورية وإعادة مؤسسات الدولة. وطلبنا إليهما أن يقولا له إنه يتحمّل مسؤولية ما يحدث في التظاهرة”. كانت تلك ذروة حرب الإرادات بين البطريرك وعون.
الساعة العاشرة صباح يوم الأحد 5 تشرين الثاني في الموعد المحدد لجلسة الانتخاب، إتصل عون بالبطريرك صفير يسأله عما إذا كان النواب إتصلوا به وما إذا كانوا سافروا من باريس أو قرروا من ينتخبون رئيساً. أجابه صفير: لا نعرف شيئاً عن ذلك.
بالفعل كان النواب قد بدأوا بالوصول الى مطار القليعات. كل الترتيبات كانت أُعدّت لإنجاح جلسة الانتخاب. الرئيس حسين الحسيني كان انتقل الى باريس لمرافقة النواب في العودة بعد تردد بعضهم إثر إعلان عون حلّ المجلس. كان النائب رينيه معوّض هو المرشح شبه الوحيد. طُرح إسمه قبل ذهاب النواب الى الطائف وتكرَّس خلال الإجتماعات ومع إقرار الوثيقة ليصبح الرئيس الأول للجمهورية بعد الطائف بعد انتخابه في مطار القليعات.
مساء الأحد بينما كان الرئيس المنتخب معوّض ينتقل الى دارته في إهدن بعد زيارة الرئيس سليمان فرنجية، كانت التظاهرات المؤيدة لعون تصل الى بكركي وتستبيح حرمة الصرح وكرامة البطريرك. في خلال التظاهرة إتصل المطران أبو جودة أكثر من مرة للحديث مع عون الذي غاب عن السمع. وعندما ردّ عليه سأله المطران عما سيقوله الناس عندما تعرض عليهم هذه المشاهد المحزنة. ردّ عون: سيقولون إن هناك إنفصاماً بين الشعب والكنيسة. علّق صفير لاحقاً في محضر روايته لاجتياح الصرح: هذا دليل على ما يُضمر من نيات سيئة للكنيسة. أضاف: سُئل (عون) لاحقاً لماذا حملت البطريرك على الهرب الى الديمان؟ قال: “لقد إختار طريق المنفى فأمّنّا له الحماية”.
كان صفير قد إتخذ القرار بالإنتقال فجراً الى الديمان بعدما انتظر الموت برباطة جأش. لكنه بعد فترة عاد الى بكركي بينما ذهب عون الى المنفى.