كتب جوني منير في “الجمهورية”:
تزور نائبة وزير الخارجية الاميركية فيكتوريا نولاند لبنان على رأس وفد رفيع، فيما الفوضى الداخلية تشتد والأزمات تزداد حدّة والانهيارات الاقتصادية تتوالى.
صحيح انّ برنامج نولاند في لبنان سيكون معبّراً، خصوصاً لجهة لقائها بممثلين عن المجتمع المدني والقوى الساعية لإزاحة الطبقة السياسية الحالية، الّا أنّ الأهم هي العواصم التي ستشملها جولة المسؤولة الاميركية، والتي أدرجت بيروت من ضمنها، والمقصود هنا بنحو اساسي محطة موسكو.
فمنذ انعقاد القمة بين الرئيسين الاميركي والروسي منتصف حزيران الماضي، والحديث يتصاعد حول تحضيرات تجري لإنجاز صفقة شاملة بين البلدين، تشمل من ضمنها الملف السوري. فثمة تطورات متسارعة تحصل وتدفع في اتجاه إتمام هذه الصفقة. وعلى رأس هذه التطورات، الحديث الاميركي المستمر عن انسحاب واشنطن العسكري من المنطقة، للتفرّغ لملف الصين. بالتأكيد لا أحد يتوقع حصول انسحاب كامل ونهائي، لكن المؤشرات توحي بخفض سقف الاهتمام الاميركي بتفاصيل الشرق الاوسط، وهو ما يستوجب ان تسبقه تفاهمات كبرى مع الدب الروسي، اللاعب القوي في المنطقة.
ووفق مبدأ انّ الطبيعة تأبى الفراغ، فإنّ الانسحاب الاميركي، ولو كان جزئياً، سيدفع بإيران الى التقدّم، خصوصاً في العراق وسوريا. وفي المقابل، من البديهي ان تعمل روسيا لأن تكون هي من يملأ الفراغ، خصوصاً انّ التراجع الاميركي أخيراً جعل السعودية ومصر وحتى اسرائيل تتحرّك في اتجاه موسكو.
صحيح أنّ واشنطن باتت اقل اعتماداً على نفط الشرق الاوسط، لكن كثيراً من القوى الدولية لا تزال تعتمد عليه، بمن فيها الصين، ما يجعل الاميركيين ملزمين بترتيب تفاهمات تحفظ مصالحهم قبل التخفيف من حضورهم في المنطقة.
تكفي الاشارة مثلاً الى سعي الصين للتسلّل الى المواقع البحرية الاستراتيجية الثلاثة في المنطقة، وهي مضيق هرمز وباب المندب وقناة السويس. وتبقى ايران حاضرة لإزعاج واشنطن وانتزاع اوراق ثمينة منها ولو لحساب الصين.
وفي المقابل، فإنّ موسكو تتقن لغة المفاوضات وتقاسم المصالح مع واشنطن، منذ أن تفاهم الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الاميركية على ادارة مصالحهما إبّان مرحلة الحرب الباردة. لذلك، وخلافاً للمناكفات الإعلامية التي تظهر احياناً، الّا أنّ التواصل الاميركي ـ الروسي دائم ومستمر. فالمصالح المشتركة واسعة ومتعددة ومتنوعة، وهي متشابكة ايضاً في كثير من الأحيان.
فعلى سبيل المثال، أبدت موسكو انزعاجها الشديد، لا بل قلقها، من الانسحاب الاميركي السريع من افغانستان. فالكرملين متوجس من النيات الاميركية، وقلقٌ من التمدّد السريع للمتطرفين في اتجاه دول آسيا الوسطى، وتهديد المجال الامني الحيوي لروسيا. انّها لعبة تبادل اللكمات التي تفهمها موسكو جيداً.
ويُقال انّ فيكتوريا نولاند كانت قد وصلت الى موسكو حاملة في حقيبتها افكاراً جديدة حول الوضع في سوريا والملف الإيراني. وعلى الرغم من انّ القيادة الروسية تعاني من الأزمة الاقتصادية، يعود احد اسبابها الى تكاليف الحرب في سوريا، إلّا أنّها تتجنّب أي خلاف استراتيجي، أكان مع ايران او مع تركيا. فالمصالح الروسية تتقاطع بمقدار كبير مع كل من ايران وتركيا، رغم وجود اختلافات كثيرة على الارض. وقيل انّ وزير الخارجية الايرانية حسين أمير عبد اللهيان أثار مع المسؤولين الروس خلال زيارته موسكو، الإجراءات الروسية المتخذة جنوب سوريا، والتي تحدّ من حركة ايران وحلفائها عسكرياً. وكان جواب وزير الخارجية سيرغي لافروف، أنّ روسيا لن تقبل بسفك اضافي للدماء. طبعاً لم يقتنع المسؤول الإيراني بالجواب الروسي، وهو الذي يعرف تماماً أنّ العلاقات الروسية ـ الاسرائيلية هي في عصرها الذهبي. لكن موسكو تغض النظر عن تثبيت نفوذ ايران في دمشق ومحيطها. فإضافة الى فتح مراكز ثقافية ودينية، ثمة تبدلات ديموغرافية تحصل وتشتكي منها الدول العربية. من هنا كانت نصيحة موسكو للدول الخليجية حول ضرورة الانفتاح على النظام السوري وعدم تركه وحيداً في أحضان ايران.
ولاستمالة روسيا أكثر، تسعى ايران الى ترتيب اتفاق استراتيجي معها شبيه بالاتفاق الذي جرى ترتيبه مع الصين، طالما انّ الاقتصاد يشكّل نقطة ضعف روسيا.
وفي المقابل، ترفض موسكو أي حسم عسكري في إدلب، وهذا يأتي في اطار سياسة التوازنات بين ايران وتركيا في سوريا. فالمنطقة الشمالية التي تخضع للأتراك تناهز مساحتها 18 الف كلم2. وفي هذه المنطقة يوجد نحو 24 الف جندي تركي نظامي، هذا عدا الميليشيات الموالية لتركيا. وفي إدلب خطوات متلاحقة لتتريك السكان، وهو ما يعني التحضير لوجود طويل الأمد، الى درجة انّ مسؤولاً أممياً رفيعاً وصف ما يحصل بأنّه أشبه بتحويل شمال سوريا الى لواء اسكندرون ثانٍ.
وفيما يستعد رئيس الحكومة الاسرائيلية نفتالي بينيت لزيارته الرسمية الاولى لروسيا للقاء الرئيس الروسي بوتين في سوتشي في 22 من الجاري للبحث في ملفات ايران وسوريا والاتفاق النووي، جاءت زيارة نائبة وزير الخارجية الاميركية لموسكو، ومعها افكار جديدة حول الملف السوري، ترتكز على تأمين مصالح روسيا وتكريس دور تركيا و «دوزنة» دور ايران. فالواضح انّ هنالك ما يؤشر الى وجود حراك جدّي حول سوريا اكثر من اي وقت مضى. وهو ما يؤمل ان ينعكس ايجاباً على الفوضى العارمة الحاصلة في لبنان ولو بطريقة غير مباشرة. وأخيراً، أبلغ المسؤولون الروس الى الايرانيين، أنّ السماح بتفاقم الفوضى في لبنان سيؤذي مصالح روسيا في سوريا. الرسالة كانت واضحة بضرورة إبقاء الوضع في لبنان تحت سقف محدّد، وإلّا ستضطر روسيا الى حماية مصالحها.
نولاند ستتطرق في بيروت الى خط الغاز من مصر الى لبنان مروراً بالاردن وسوريا. هو إجراء حيوي للبنان الغارق في العتمة والمهدّد بالتحلّل الكامل وزوال ما تبقّى من هيكل الدولة. هذا الخط نال إعفاءً اميركياً غير مكتوب من عقوبات «قانون قيصر». والأهم أنّ هذا الخط عنوانه حيوي ـ انساني، لكن خلفيته سياسية ولها علاقة بالمرحلة المقبلة او مرحلة ما بعد الاتفاق النووي ورفع العقوبات عن إيران.
وفي بيروت ايضاً، حذّر الموفد الفرنسي بيار دوكان أركان السلطة من أنّ الوقت بات داهماً امام الحكومة، التي عليها ان تباشر بالإصلاحات قبل نهاية هذه السنة كحدّ اقصى. ذلك انّ دوكان يدرك أنّ رئيسه ايمانويل ماكرون سيغرق في «دوشة» الانتخابات الرئاسية بعد نهاية السنة، وكذلك لبنان سيغرق بدوره في الحملات الانتخابية المتوقعة. فالمطلوب من الحكومة ثلاثة ملفات ملحّة، وهي أولاً الإصلاحات، من خلال البدء بالمحادثات مع صندوق النقد الدولي، وثانياً معالجة فورية للكهرباء وإقرار الهيئة الناظمة في أسرع وقت، وثالثاً تنظيم الانتخابات النيابية. لكن الحكومة والتي تبدو عاجزة عن الحركة، غرقت في ملف تحقيقات المرفأ ودعوة «حزب الله» الى إزاحة المحقق العدلي القاضي طارق البيطار.
لذلك، تبدو زيارة المسؤولة الاميركية مهمّة، خصوصاً في محطتها الروسية التي يأمل البعض ان تلفح الملف اللبناني ولو بطريقة غير مباشرة. صحيح انّ الانتخابات العراقية حصلت بسلاسة وبهدوء، لكن نتائجها قد تؤثر سلباً على الانتخابات النيابية اللبنانية، ذلك انّ هنالك من سيزداد توجّسه.
لكن للفوضى في لبنان سقفاً حدّدته التوازنات والمصالح الاقليمية المتداخلة والمتشابكة. فكما جرى فرض الحكومة رغم «شراهة» مصالح الطبقة السياسية اللبنانية، فإنّ اطلاق النار على الحكومة بهدف قتلها ممنوع، ويُعتبر تجاوزاً للخط الاحمر. قد يكون مسموحاً ربما تجميد عملها لبعض الوقت، على الرغم من المضار الهائلة الناتجة من ذلك.
تكفي الإشارة الى سعر صرف الدولار.