جاء في نداء الوطن:
“تُقفل جميع الإدارات والمؤسسات العامة والبلديات والمدارس الرسمية والخاصة” أبوابها اليوم حداداً على من سقطوا في الشارع، والحداد سيكون موصولاً على سقوط الدولة مرة جديدة في قبضة السلاح المتفلّت الذي لا ينفك يضرب بيد من حديد هيبة الدولة، وينصب الكمائن لسطوتها عند كل استحقاق ومنعطف… وكان آخرها بالأمس عند مستديرة الطيونة حيث سرعان ما أضرمت النعرات الاستفزازية فتيل حرب شوارع دموية بين مسلحي “حزب الله” و”حركة أمل” من جهة، وآخرين متمركزين على تخوم تقاطع عين الرمانة.
وإذ بدأ يتصاعد منسوب الغليان في الشارع مع انطلاق مسيرة راجلة لمحازبي الثنائي الشيعي ومناصريهما انطلاقاً من الضاحية الجنوبية مروراً بالطيونة وصولاً إلى قصر العدل، حيث كانت نقطة التجمع لتظاهرة تخوينية ضد المحقق العدلي في جريمة المرفأ القاضي طارق البيطار، بيّنت الوقائع الميدانية أنّ “البروفا” الفتنوية بدأت ميدانياً تحوم في الأرجاء مع لحظة اختراق مجموعة من المتظاهرين ثغرة أمنية، فدخلوا عبرها باتجاه أحد أحياء عين الرمانة مرددين شعارات استفزازية، فكانت الشرارة الأولى التي أشعلت اشتباكاً مسلحاً أسفر عن سقوط قتلى وجرحى وخسائر مادية فادحة في الممتلكات.
لكن ورغم حراجة الوضع وضراوة تبادل النار في المكان، نجح الجيش في تطويق الموقف المباغت فكان بالمرصاد لتمدد النيران الفتنوية وتمكن خلال بضع ساعات من إعادة ضبط الوضع ميدانياً بالتوازي مع تواصله مع كل الأطراف المعنية، علماً أنّ قائد الجيش العماد جوزف عون سبق أن حذر قبل أيام في لقاء مع كبار الضباط من خطورة الوضع مؤكداً أنّ “الجيش لن يسمح لأي فتنة بتحقيق أهدافها”.
وبهذا المعنى، أتى بيان قيادة الجيش، في معرض تفنيده وقائع وملابسات الاشتباك المسلح الذي حصل عند مستديرة الطيونة، ليجدد عزم المؤسسة العسكرية على التصدي لأي أجندة فتنوية في البلد وتأكيدها “عدم التهاون مع أي مسلح”، معلناً تكثيف الانتشار العسكري في المنطقة “لمنع تجدد الاشتباكات” وتوقيف تسعة أشخاص “من كلا الطرفين بينهم سوري”.
أما على المستوى السياسي، فواكبت قيادتا “حزب الله” و”حركة أمل” مجريات الأحداث الميدانية بسلسلة من البيانات والاتهامات المتدحرجة وصولاً إلى تحميلهما صراحةً حزب “القوات اللبنانية” مسؤولية مباشرة عن “عمليات القنص للقتل العمد”، مع التلميح إلى وجود قوائم بأسماء “معروفة” تحدد هويات “المتسببين والمحرضين الذين أداروا هذه العمليات من الغرف السود”. الأمر الذي نفته “القوات” معلنةً الاحتكام لتحقيقات الأجهزة الرسمية بغية تحديد المسؤوليات “بشكل واضح وصريح”، مذكرةً بأنّ تغطية “وسائل الإعلام كلها والفيديوات تؤكد بالملموس الظهور المسلح بالأربيجيات والرشاشات والدخول إلى الأحياء الآمنة”، وذلك في سياق ممنهج كان قد بدأ بعملية “الشحن” ضد المحقق العدلي، مروراً بتهديده بـ”القبع”، وصولاً إلى “استخدام السلاح والترهيب والعنف والقوة لإسقاط مسار العدالة في انفجار مرفأ بيروت”. بينما بدا واضحاً رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع في تحميل رئيسي الجمهورية والحكومة ووزيري الدفاع والداخلية مسؤولية أساسية في “إجراء تحقيقات كاملة ودقيقة لتحديد المسؤوليات عما جرى في العاصمة”، مشدداً على وجوب “الحفاظ على السلم الأهلي” بوصفه “الثروة الوحيدة المتبقية في لبنان”.
وعلى الضفة العونية، برز على هامش أحداث الطيونة الدموية بوادر “عصيان” رئاسي وسياسي لنوازع “حزب الله” في الحكومة وعلى الأرض، لفرض رغبته في تطيير القاضي طارق البيطار. وبدأت معالم هذا العصيان بالتمظهر انطلاقاً من تشديد رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل نهاراً من بكركي على أنه “لا يمكن أن يفرض أحد رأيه فرضاً على الآخرين” في إشارة واضحة إلى الثنائي الشيعي، قبل أن يعود بيان “التيار” إلى الموازنة بين إدانة “الاعتداء المسلح على أناس أرداوا التعبير عن رأيهم”، وبين إعادة التأكيد على أنه “من غير الجائز أن يسمح طالبو التعبير عن رأيهم لأنفسهم بفرضه بالقوة على الآخرين”.
ومساءً، توّج رئيس الجمهورية ميشال عون هذا التوجه بإطلالة متلفزة ضمّنها جملة رسائل امتعاض من أداء قيادة “حزب الله” حكومياً وقضائياً، رافضاً سياسة “التهديد والوعيد” لفرض الحلول في قضية المحقق العدلي، ومؤكداً “عدم السماح لأحد بأن يأخذ البلد رهينة مصالحه الخاصة أو حساباته”، مقابل تجديده الالتزام أمام الداخل والخارج باستكمال “التحقيق في جريمة المرفأ”، وتأكيد العمل على إيجاد صيغة حل مناسبة لاعتراض الثنائي الشيعي على مسار التحقيق العدلي ترتكز “على قاعدة استقلالية القضاء وفصل السلطات واحترام العدالة”.
وبينما لم تتأخر محكمة التمييز المدنية في رد طلب رد القاضي البيطار للمرة الثانية على التوالي أمس، توالت على المستوى الدولي التعليقات والبيانات الفرنسية والأميركية والبريطانية والأممية، تنديداً بمحاولات عرقلة التحقيق العدلي في انفجار بيروت، وممارسة التحريض والعنف واللجوء إلى السلاح في سبيل تحقيق هذه الغاية، وسط إعراب المجتمع الدولي عن “القلق” إزاء تفلّت الأوضاع الميدانية أمس في بيروت.
ولم تتوانَ الخارجية الأميركية في هذا السياق عن تسمية “حزب الله” بالاسم باعتبار “أنشطته الإرهابية تقّوض استقرار لبنان وسيادته”، وذلك غداة انهاء وكيلة وزير الخارجية للشؤون السياسية فكتوريا نولاند زيارتها اللبنانية، مطلقةً سلسلة مواقف تدعو من جهة إلى “التهدئة وتخفيف التوترات”، وتؤكد من جهة ثانية وقوف الولايات المتحدة إلى جانب الشعب اللبناني “لاستعادة الاستقرار الاقتصادي والخدمات الأساسية بما في ذلك الكهرباء والرعاية الصحية والتعليم”، مقابل تسخيف العروض الإيرانية في هذا المجال بوصفها مجرد “فرقعات إعلامية”.
وعربياً، دعت القاهرة كافة الأطراف اللبنانية إلى “ضبط النفس والابتعاد عن العنف تجنباً للفتنة، وإعلاء المصلحة الوطنية العليا للبنان في إطار الالتزام بمحددات الدستور والقانون بما يصون استقرار البلاد وأمنها ويخرج شعبها من دائرة الأزمات”، وطالبت على لسان المتحدث الرسمي باسم الخارجية المصرية “الحكومة اللبنانية ومؤسسات الدولة بالاضطلاع بمسؤولياتها فى إدارة البلاد وحل الأزمات واستعادة الاستقرار، حتى يتمكن المجتمع الدولي من مساعدة لبنان”.
كما كانت دعوة من الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط إلى كافة الأطراف اللبنانية “لتجنب الفتنة ولغة التحريض وأفعال التصعيد”، محذراً من “خطورة استمرار المواجهات في الشارع اللبناني بشكل يهدد السلم الأهلي بشكل مباشر”، مع الإشارة في الوقت عينه إلى “أهمية مواصلة القضاء اللبناني اضطلاعه بمسؤولياته في التحقيق الجاري في انفجار مرفأ بيروت بشكل مستقل وشفاف ونزيه، للكشف عن ملابساته ومحاسبة المسؤولين عنه”.