كتب أنطوان الشرتوني في “الجمهورية”:
شكراً لجميع المسؤولين اللبنانيين، الذين، ومن دون تقنيات التحليل النفسي كالتداعي الحر ومن دون التنويم المغناطيسي، جعلونا نتذكر وبشكل واعٍ الحرب أو الحروب التي عايَشناها بكل تفاصيلها منذ صغرنا في لبنان. لم نكد ننسى الماضي حتى تم إيقاظه من جديد. فشكراً لكم. والجدير بالذكر أنّ هذه المرة، أطفالنا شاركونا الشعور بالخوف والقلق وعدم القدرة على الهروب من القصف. فلماذا تذكّر اللبنانيون وبشكل سريع كل الأحداث الماضية؟ فهل الذاكرة لا تستطيع أن تمحو الأحداث المؤلمة؟ وهل تنتقل الذكريات المؤلمة عبر الأجيال؟
نهار الخميس الواقع في 14 تشرين الأول 2021، يوم الذي تذكّر فيه اللبنانيون مشاهد الحرب، تداولت جميع وسائل التواصل الإجتماعي صوراً وفيديوهات تظهر فيها «مشاهد» أعادت اللبناني إلى أيام كان قد حاول خلال العديد من السنين نسيانها. كما شاهدنا صوراً لأطفال مرعوبين من أصوات الرصاص والقذائف، يختبئون في صفوفهم ويواجهون أصعب الاختبارات التي عاشها أهلهم لسنين طويلة. المشهد يتكرر والخوف يتكرر والذاكرة لا تخون.
ما الذي حصل في 14/10/2021؟
بشكل بسيط، في التاريخ المذكور أعلاه، تمّ استحضار الماضي إلى جميع أذهان اللبنانيين الذين عايشوا مشاعر وأحاسيس سلبية كانوا يحاولون نسيانها منذ زمن. وبلحظة واحدة، وكأنّه خلال جلسة في التحليل النفسي، تذكّر اللبناني كل المواقف المؤلمة التي رآها وسمعها وشعر بها خلال سنين الحرب اللبنانية. في البلدان «المتحضرة» يكون استحضار الذاكرة نعمة لا غِنى عنها للشخص. فليس هناك أجمل من تذكر المواقف الإيجابية التي كوّنت حاضر هذا الإنسان ومستقبله. ولكن، للأسف، إن استحضار الذاكرة في لبنان ليس بحاجة لاستئذان. وعادةً، الذاكرة تعيد مشاهد أكانت جميلة أو أليمة، قديمة أو حالية لأسباب كثيرة أهمها الترابط ما بين حادثة حالية مشابهة لحادثة قديمة. مثالنا على ذلك، «صور قنّاص النهار المشؤوم» (الحادثة الجديدة) بـ»قنّاص» أيام الحرب اللبنانية (حادثة قديمة). وتفاعل اللبناني تجاه الأحداث التي حفّزت لديه ذاكرته وتأثر بها بمجرد العودة الاليمة الى مواقف الحرب. فهناك نقطتان أساسيتان حول موضوع الذاكرة واستحضارها بشكل مفاجىء، هما:
– الذاكرة وفية لأحداث الماضي. على رغم انّ الذاكرة تنسى أو تشوّه بعض المواقف ولكن لا يمكن أن تتخلّى عن آلامٍ عاشها الإنسان.
– حاضر الإنسان ليس سوى انعكاس لماضيه. لذا، تأتي مواقفه متلاصقة مع الذكريات التي عاشها. فطبعاً اللبناني نام ليل الخميس 14/10/2021 وهو يتذكر كل آلام الحرب بسبب اليوم المشؤوم الذي عاشه
إضطراب ما بعد الصدمة!
إنّ الذي حصل في 14 تشرين الأول 2021 يمكن أن يؤثر في اللبناني بشكل كبير وعلى المدى القريب والبعيد وعند جميع الفئات العمرية. فخطورة استرجاع الذكريات الأليمة هي من أبشع الاختبارات التي يمكن أن يعيشها إنسان يحاول بشتى الطرق نسيان ماضيه. ولم تمر ساعات على الحادثة، حتى بدأ اللبنانيون التعبير عن مخاوفهم وقلقهم بسبب المشاعر السلبية الواعية أو غير الواعية لديهم. فالكثير منهم لم يستطيعوا النوم ليلاً، بسبب معايشة مشاكل الشارع أو بسبب التفكير الدائم بالضحايا الأبرياء الذين سقطوا من دون ذنب. كما انّ الكثير من اللبنانيين توجّهوا إلى المحلات للتبضّع، وكأنّ حرباً قد اندلعت.
وإنّ المخاوف اليومية التي أطلّت برأسها بعد ذلك اليوم المشؤوم هي معاناة أطفالنا بسبب مشاكل النوم. فعندما يطلّ الليل، لا يريد الطفل مواجهة ظلام الغرفة بمفرده. وتبدأ الخيالات وتظهر المخاوف التي تجعل النوم مستحيلاً في غرفته خاصة إذا شاهَد الكثير من المشاهد المؤلمة. ونرى الكثير من الأطفال يهرعون إلى غرف أهلهم طالبين النجدة والمساعدة وخائفين من الرجوع إلى مضاجعهم.
كيف يمكن السيطرة على الذكريات الأليمة؟
بعدما تذكّر اللبناني الماضي الأليم جرّاء مشاهدة المشاكل وسماع الرصاص ودويّ القنابل، سبّب ذلك له رد فعل عاطفي مع شعور عميق بالإنزعاج من دون معرفة السبب. ولكن يمكن من خلال التحليل النفسي أن نعرف أنّ حال هذا اللبناني هي حال الكثير من المواطنين، حيث تحكّمت عواطفهم بالأفكار والذكريات الموجودة في عقولهم. وتمّ الربط ما بين الأفكار السلبية المؤلفة من الذكريات السلبية (الحرب اللبنانية) ومشاهد العراك في الشوارع.
والذي يجب معرفته بأنّ الماضي لا يتبخّر ولا يختفي بل يتحوّل إلى أحداث يمكن مع مرور الوقت أن تصبح في الذاكرة العميقة للإنسان. لكنّ هذه الذكريات، خاصة الاليمة، يمكن أن تستيقظ في أي وقت لتذكّر صاحبها بالحزن والحسرة التي شعر بها. وتجدر الإشارة الى أن بعض الأحيان «ينكر» الإنسان بعض الأحداث الأليمة القديمة، وهذا ما يمكن تسميته «الإنفصال عن الواقع». ولكن هذا لا يعني بأنه نسي وبشكل كامل آلامه الماضية وذكرياته حيث يفصل الدماغ عن تلك الفكرة المؤلمة ولكنه لا يلغيها.
وللمصالحة مع الماضي، يمكن التحدث عنه بمساعدة أشخاص متخصصين. كما يمكن طلب استشارة من الأخصائي النفسي لمساعدته على تخطّي «ذكرياته الأليمة». فالشعور بالأمان والطمأنينة كما استعادة الصورة الإيجابية للحياة هما من أهم المواقف التي يجب العمل مع الإنسان الذي يُعيقه ماضيه للتقدّم.