كتب جورج شاهين في “الجمهورية”:
لم يكن أيٌ من القوى السياسية والحزبية يتوقع ما صدر من مواقف ملتهبة عند قراءتها لواقعة الطيونة. فقد فاجأت الحلفاء والخصوم بما أوحت به. ورغم أشارت بعضها الى أخطاء مجموعة من المتظاهرين، واعتماد بعض عبارات التطمين في إطار الاستراتيجيات الكبرى، فقد زرعت القلق في نفوس اللبنانيين إزاء المستقبل المجهول. وعليه، كيف سيتعاطى اللبنانيون مع نتائج التحقيق، إن جاء بروايات مختلفة عن تلك «المعلّبة» التي أُطلقت؟
تعجّ الصالونات السياسية والحزبية والأمنية والديبلوماسية بالسيناريوهات التي تتناول أحداث الطيونة الخميس الماضي، ومنها ما يتناول المرحلة التي سبقتها وتلك التي رافقتها، وسط عجز ظاهر عمّا سيليها وتلك الناجمة عنها. فما زالت تخضع لكثير من المؤثرات الغامضة. ومردّ ذلك الى الخوف المتعاظم من ان يكون ما يُدبّر للبلد في مكان ما في المنطقة والعالم، أكبر بكثير من قدرات اهل الحكم والحكومة، فينساق الجميع مرة أخرى الى حيث لا يريدون فعلاً، وخصوصاً إن سلكت التطورات منزلقات خطيرة، لا يستطيع احد ان يلجمها.
ليس في ما سبق ما يثير قلقاً أكثر مما هو قائم اليوم وعلى أكثر من مستوى. فما شهدته ساحة الطيونة ومحيطها أذهل كثيرين وأسقط كثيراً من الوعود التي قُطعت بأنّ الأمن ممسوك، وانّ القدرة على قراءة وتوقّع المؤشرات الاستباقية متوافرة من أجل حماية البلد من اي خضّة غير محسوبة، في مرحلة يعاني منها اللبنانيون من تخمة الهموم اليومية، إلى درجة لم تعد نسبة كبيرة منهم قادرة على تحمّلها. وبدلاً من ان يتمتع القادة السياسيون والحزبيون بحسّ الانتظار لفهم حقيقة ما جرى، إن كان ما حصل قد شكّل مفاجأة لمختلف الاطراف التي شاركت أو تورطت في ما حصل فعلاً، أم أنّه اقتصر على طرف واحد، كان يقدّر أو يعرف ما الذي يمكن ان يؤدي إليه مثل هذه التصرفات.
وعليه، فقد ثبت بالوجه الشرعي لدى كثير من المراقبين، انّ الأحكام المسبقة تحكّمت بكثير من المواقف والتصريحات الأولية التي قادت اليها التغطية الإعلامية المباشرة التي حظي بها بعض الأحداث، في ساحة محدّدة، فيما كانت ساحات اخرى بعيدة عنها، قد شهدت ما شهدته من مواجهات، وتحديداً في الأحياء الداخلية للمنطقة، والتي قادت الى ما جرى في المنطقة المكشوفة إعلامياً وأمنياً، فغابت أحداث وحضرت أخرى يقتضي التدقيق فيها. وهو ما أوحى بضرورة التثبت من خيارين لا ثالث لهما، أولهما يقول انّ ما جرى كان مخططاً له على الأقل من طرف واحد، لاستدراج الآخرين إليه، وهو ما ادّى الى ردّة فعل فورية في ظل انتشار الحدّ الأدنى من السلاح الذي استُخدم على مدى اربع ساعات ونيف بشكل متقطع. وثانيهما، ان يكون الطرفان إنقادا الى من استفاد من وجودهما على ارض خصبة ليقود الى ما حصل. وهو ما أدّى الى عدم الحسم في صحة ودقة بعض الروايات المتسرّعة التي خلطت بين الأمرين.
وإن كان ترجيح الخيار الاول اكثر منطقياً وقابلية، كما أثبتته البيانات الاولى عن الأحداث، قبل ان يتهاوى كثير منها بسرعة قياسية، بعد ان فرغت ساحات المواجهة من أبطالها وبدأت التحقيقات الجارية على اكثر من مستوى تغيّر المشهد. وفي انتظار توضيح كثير مما لا يزال غامضاً ويخضع للتمحيص والتأكيد، لتوليد السيناريو الكامل للعمليات إن كان ذلك ممكناً في وقت قريب، فإنّ التمادي السياسي الناجم عمّا حصل، يؤذي أكثر مما يفيد عملية البحث عن الحقائق، بالمقدار الكافي الذي يمكن ان يقدّم رواية حقيقة عمّا حصل، قبل الانتقال الى مرحلة تحميل المسؤوليات.
وعلى هذه الخلفيات، يخشى المراقبون من وجود من ليس مستعداً للاعتراف بكثير مما حصل من أخطاء مقصودة جاءت عكس ذلك. فالمسؤوليات في مثل هذه الأحداث لا تلقى على طرف واحد اياً كانت النتائج التي يمكن التوصل اليها، وحصيلة المواجهات لم تكن بسيطة ويمكن تجاوزها بسهولة. فالنزاع على اشدّه في الساحات الداخلية لكل طرف، إن صح انّ هناك طرفين تنازعا في ذلك اليوم وليس هناك من طرف ثالث أذكى وساهم في اشتعال المواجهة، كما بالنسبة الى الذين يسعون الى الإستثمار في ما حصل، والبناء على ما يمكن ان يقود إليه من تحالفات، في ظل ما هو مطروح من استحقاقات سياسية وحكومية، عدا عن تلك المقبلة، إن دخلت البلاد من اليوم مدار الانتخابات النيابية.
ولذلك، هناك من يدعو الى التريث في بناء المواقف وإصدار الاحكام، والسعي أولاً الى التأكيد انّ ما حصل لن يتكرّر بإرادة اطرافه اياً كانوا، او الانقياد خلف مخطط خارجي. فالبلد لا يتحمّل مثل هذه الخضات في ظل اسوأ أزمة تشهدها البلاد، وقد تنوعت مظاهرها التي زادت من حجم النكبات التي على اللبنانيين توقّع المزيد منها يومياً، ما لم تنجح الجهود المبذولة لتقديم الخيارات التي تؤدي الى مرحلة وقف الانهيارات الحاصلة، قبل سلوك الطرق المؤدية الى التعافي والإنقاذ، مهما كانت طويلة ووعرة.
وعلى هذه الأسس، لا بدّ من الاستعداد لمواجهة سقوط كثير من «السيناريوهات المعلّبة» التي نُسجت على أساسها كثير من المواقف التصعيدية وما فيها من الاتهامات التي ألهبت الرأي العام ووضعت البلاد على شفير أزمة غير مسبوقة. فالمعلومات الأولية التي تسرّبت من التحقيقات الجارية قد أنهت الجدل في شأن عدد منها. ومنها على سبيل المثال لا الحصر، أن ليس هناك من قنّاصة بالمعنى التي أوحت به بعض الاطراف، وانّ استخدام الطبقات العليا من المباني توزع بين جانبي اوتوستراد المواجهة إن صح التعبير. كما انّ تحميل الجيش مسؤوليات محدّدة يبقى ظلماً مباشراً في انتظار كثير من التدقيق في بعض الأفلام المتداولة قبل توصيفها وما تؤكّد عليه او تنفيه. كما انّ الحديث عن سقوط بعض الضحايا والأضرار الجسيمة في بعض المؤسسات والمنازل، ليس مستغرباً انّه كان بـ «سلاح صديق». فالفلتان الذي ساد وظهور المسلحين، إن كانوا من هواة حمل السلاح أو المدرّبين على استخدامه، يحتاج الى عملية فرز لكل حالة على انفراد وبطريقة دقيقة.
وتنتهي المراجع الى القول، انّ هذه الملاحظات تشكّل غيضاً من فيض ما يمكن قوله حتى الأمس القريب. وانّ ما يجب التوقف عنده يستأهل انتظار ما يمكن ان تؤدي اليه التحقيقات، وسط شكوك بوجود نيات مسبقة بعدم قبول ما يمكن ان تؤدي اليه. ولذلك، فإنّ التحذير واجب من النتائج المترتبة على ما حصل. فإن تخلّفت الأطراف عن الاعتراف بما حصل سيعكس مزيداً من التوتر، في ما قد يشكّل إشارة توحي انّ أياً ممن يدّعون الإشراف على ساحة المواجهة لم يكونوا في ساحتها، وانّ هناك من أدار اللعبة من الخارج، ليتعظوا من مخاطر ما يُدبّر للبلد ومواطنيه.