بدأ الشتاء القارس مبكراً في لبنان، مع تحوّل «عواصف» أسعار المشتقات النفطية نواةَ إعصارٍ تنجرف معه سلّةُ الاستهلاك الأساسية الى ارتفاعاتٍ صاروخية تتعدى متوسطات المداخيل المتآكلة لنحو 80 في المئة من السكان المصنَّفين تحت خط العجوزات المعيشية، وتُنْذر بوضع أكثر من نصفهم في مواجهة معارك صمود خاسرة سواء بالنقاط أو بالضربات القاضية.
ويستشعر المواطنون، ولا سيما قاطنو المرتفعات والجبال خارج المدن الساحلية، بمرارة «الهزيمة» في تأمين وسائل النقل والتدفئة بعدما بَلَغَ ارتفاعُ أسعار البنزين والمازوت (الديزل) والغاز المنزلي نحو 12 ضعف مثيلاتها قبل عامين متتاليين من الأزمات العاتية التي تضرب البلاد، بينما يتكفل انقطاع التيار الكهربائي باستهلاكِ نحو ثلث متوسطات الأجور على وقع استمرار تقنين السيولة النقدية لمَن تبقى لهم مدّخراتٌ في البنوك.
وتُبيِّن جولاتٌ ميدانية نفّذتها «الراي» أن ملامح التصحر قد تتصاعد بوتيرة غير مسبوقة مع تحول غالبية سكان الجبال من مالكي الأراضي والبساتين الى الاعتماد على «الحطب» كلياً كوسيلةِ تدفئة، أو للمتاجرة به بعد الارتفاعات المضطردة بأسعاره وتوازي كلفته مع السعر الرائج لوقود الديزل.
وثمة مخاوف حقيقية من الاضطرار لقطع الاشجار توخياً للدفء أو المردود المادي أو للهدفين معاً. وما يزيد من قتامة المشهد، الترقبات غير المحلية بارتقاء أسعار النفط في الأسواق العالمية لمستويات تقارب 100 دولار للبرميل خلال الأسابيع القليلة المقبلة ما يعني تلقائياً تسجيل ارتفاعات متلاحقة أسبوعياً في أسعار المشتقات النفطية للمستهلكين.
وبالتوازي، تكفّلتْ الأجواء الداخلية المحتدمة والنزاعات الأمنية والسياسية باستعادة المضاربات النقدية على سعر صرف العملة الوطنية حيث لامس الدولار في السوق الموازية عتبة 21 الف ليرة بعدما أطيح بكل المكتسبات الجزئية التي أعقبت عودة الانتظام إلى السلطة التنفيذية في أعقاب نحو 14 شهراً من شبه الشلل التام واقتصار مهمّتها على الحد الأدنى من تصريف مؤسسات الدولة وأنشطتها.
ورغم «انكماش» دور النقابات العمالية وضآلة تحركاتها الاعتراضية في مواجهة التدهور المريع على مستويات المداخيل وفقدان غالبية مقومات التوازن المعيشي، علا امس صوت رئيس الاتحاد العمالي العام بشارة الاسمر محذراً من انفجار اجتماعي كبير ينتج عن تأثيرات الارتفاعات الصاروخية لأسعار المحروقات.
وفي التوصيف، أشار إلى ان هذه الارتفاعات ستؤدي الى شلل تام للحركة الاقتصادية وعدم قدرة الموظف في القطاعين العام والخاص على التوجه الى عمله وتباطؤ الحركة الاقتصادية، والى زيادة صاروخية في أسعار النقل والسلع والغاز والخبز والطبابة والاستشفاء والتدفئة على أبواب الشتاء، وأيضاً الى انهيار كبير في أداء المؤسسات الحكومية التي تعتمد كلياً على المحروقات لتأمين الخدمات المختلفة من كهرباء واتصالات وانترنت ومياه، فضلاً عن ارتفاع أسعار اشتراكات المولدات الكهربائية وعدم القدرة على تأمين الإمدادات بالمياه.
في المقابل، برز تَعامُل الأسواق المُوازية للمبادلات النقدية ببرودةٍ تامة مع تصريح لوزير الاقتصاد أمين سلام قال فيه إن «الحكومة ستعمل على ضبط تفلّت الدولار واستقراره على سعر 12 ألف ليرة في الأشهر المقبلة«، قبل أن يوضح»أن التباساً حصل في ما ذكرتُ، فالعمل على خفض سعر الصرف الى 12 ألف ليرة تقدير شخصي، مبني على معطيات تعمل عليها الحكومة مع المجتمع الدولي وصندوق النقد والبنك الدولي ومع كل الجهات المعنية لمساعدتنا على إعادة تحريك الوضع الإقتصادي بما يتيح خفض سعر الصرف الى ما بين 10 الى 12 ألف ليرة، وتالياً ما ذكرته عن سعر الـ12 ألفاً رهن ورشة عمل مكثفة».
وأكدت مصادر متابعة لـ«الراي» أن المؤشرات الحاضرة في الأسواق تشي بالأسوأ نقدياً ومعيشياً ما دامت المناخات العامة تعاكس توجهات الحكومة ومهماتها، ولا سيما لجهة إنجاز خطة التعافي الموعودة التي ستشكل بنودها محاور المفاوضات الرسمية مع إدارة صندوق النقد الدولي. فيما يمكن لبعض المعالجات الآنية وخصوصا بينها زيادة التغذية بالتيار الكهربائي ان تخفف جزئياً من آلام جبهة عواصف الداخل وبرد الشتاء ببطون خاوية وجيوب فارغة.