كتبت غادة حلاوي في “نداء الوطن”:
من غير المعروف بعد إلى أي مدى ستستمر قضية المحقّق العدلي في قضية المرفأ القاضي طارق البيطار في كربجة البلاد وتهديد حكومته. لا أُفق للحلّ بعد، وقد باءت الصيغ القانونية التي طُرحت بالفشل في ضوء إصرار البيطار على السير بإجراءاته من دون رغبة في التنحّي، أو الالتفات إلى الضغوط السياسية التي تمارَس عليه من بعيد أو حتى بعد جريمة الطيّونة المُريبة. تداخل العامل القضائي بالسياسي هنا صعّب المخارج وأحرج كل الجهات ذات الصلة، في وقت لا نية للثنائي في العودة الى طاولة مجلس الوزراء قبل حلّ عقدة البيطار، فما الآليات الممكن ان تطرح مجدداً؟ واذا كان الطلب مرتبطاً بتغيير المحقق العدلي فقد سبق وتم تغييره فما الضمانة ألا يتبع اي محقق جديد الخطوات ذاتها؟ وهل القصة متعلقة بشخص أم بمسار تحقيق؟ أم ان المحقق العدلي صار محل ارتياب لانه مدعوم من الخارج؟ وهل الموضوع يقتصر على النواب والوزراء في المحاكمة؟ وهل تحل المشكلة اذا اعتبرنا ان المجلس العدلي والمحقق العدلي ليسا اصحاب صلاحية لمحاكمة الوزراء والنواب، فمن يضمن اذاً حقوق المدعى عليهم الآخرين والذين ليس لهم حق الاعتراض؟
في العام 1923 أصدر حاكم لبنان الكبير في عهد الانتداب قراراً بإنشاء محكمة استثنائية تحت اسم المجلس العدلي للنظر في جنايات القتل والاعتداءات الواقعة بعد 5 نيسان 1923 في الأراضي اللبنانية، منذ إنشائه وحتى شهر تموز من العام 2019، أحيلت إلى المجلس العدلي 250 جريمة (الدولية للمعلومات). تُحال الدعوى العامة على المجلس العدلي بناءً على مرسوم يُتّخذ في مجلس الوزراء. وتعتبر قراراته غير قابلة لأي طريق من طرق المراجعة، كما أن قرار المحقّق العدلي هو قرار مبرم ويغطي الشوائب التي قد تكون حصلت أثناء التحقيقات.
وإذا كان المجلس انشئ بهدف تسريع المحاكمات فانه وكما يبدو تحوّل الى عبء على الحكومة بدل ان يشكل مرجعاً قضائياً مفصلياً لتحقيق العدالة. وكأن الاعتراضات على المحقق العدلي في جريمة المرفأ فتحت شهية بعض القضاة والقانونيين لتسليط الضوء على الشوائب المحيطة بعمل هذا المجلس ووضعيته.
فالنقطة الاولى التي ينطلق منها اصحاب الشأن هي وجود حصرية تحقيقات بيد قاض منفرد، من دون حق الاعتراض لأي جهة قانونية او ان يتسنى لها حق الطعن بقراراته. فالمحقق العدلي ومن وجهة نظر قضائية يختصر بشخصه صلاحيات الادعاء والتحقيق والاتهام ما يفسّره حقوقيون على أنه مخالفة لأبسط حقوق الدفاع والمبادئ، التي ترعى عمل السلطة القضائية وتضمن حقوق المتقاضين ومبدأ الفصل بين السلطات، فهل يعقل ان يجمع شخص واحد صلاحيات تمثيل الدولة في الادعاء في حين انها خصم في الدعوى اضافة الى الظن والاتهام؟
وفق ما ينص قانون المجلس العدلي فإن المحقق العدلي يبدو وكأنه مرجع قضائي فوق كل المراجع بما فيها النيابة العامة التمييزية، حيث ان صلاحيات المدعي العام التمييزي تتوقف عند حدود معينة في اطار النظر في الدعوى.
أما النقطة الاهم هنا من وجهة نظر حقوقية فتتمثل في الجهة التي تحيل الجرائم الى المحقق العدلي والمحصورة في مجلس الوزراء لكونها ملفات تمس امن الدولة، بينما كان يفترض ان توكل الى السلطة القضائية التي لها حق تقدير اي ملف يحول الى محكمة خاصة. كل هذه الاسباب والتساؤلات التي سبقت تقتضي من وجهة نظر اهل البيت القضائي اعادة النظر بموضوع انشاء المجلس العدلي والمحقق العدلي او على الاقل بصلاحياتهما، فهل ان هذه الامكانية مقبولة؟
في عودة الى الوراء يتبيّن ان المجلس سبق وجمدت اعماله مرتين. فهل نكون امام واقع مماثل اليوم؟
سؤال عصي على الاجابة. لا تنفي مصادر حقوقية وجود شيء من الديكتاتورية في احكام المجلس والتي هي احكام درجة اولى ولا يجوز الاستئناف بشأنها ولا التمييز، الا في حالتي طلب الرد والارتياب المشروع او في حال توافر وقائع جديدة في التحقيق، كما سبق وحصل في الحكم الذي اصدره المجلس العدلي بحق المتهم باغتيال النائب الأردني عمران المعايطة، حيث صدر الحكم على المتهم بقتله لتتبين بعد فترة براءته ووجود منفذ آخر للجريمة، حكم في الاردن ورغم ذلك بقي مسجوناً الى حين صدور عفو عام بحقه في العام 2010.
لكن وقائع اليوم تختلف عن امسها فقضية تحقيقات البيطار في جريمة المرفأ بيّنت وتحت عنوان فصل السلطات قوة المحقق العدلي وصلاحياته واستحالة مراجعته، الا في الرد والارتياب والحالتان متعذرتان بالنظر الى سرعة رد محكمة التمييز مثل هذه الطلبات لاصحابها، معطوفاً عليها الانقسام الذي ساد مجلس القضاء الاعلى بعد ان عوِّل عليه في ايجاد المخارج المناسبة بعد التفاهم مع البيطار. وتستبعد مصادر سياسية مثل هذا الحل في الوقت الحاضر بالنظر لحساسية الموقف وتداخل العوامل القضائية بالسياسية، وقد تحولت قضية المرفأ الى قضية رأي عام تجعل من الصعوبة بمكان التجرؤ على طرح من هذا القبيل، ولو ان الفكرة بذاتها صارت مثار تداول في حدود ضيقة على سبيل ايجاد مخرج لازمة البيطار القضائية وخلفياتها السياسية.
مصدر قضائي جزم قائلاً: “حالياً يصعب الغاء المجلس العدلي، لأن الغاءه يتطلب قانوناً من مجلس النواب، ولنفترض انه طرح فالنواب المسيحيون حكماً لن يوافقوا عليه وسيفاقم الازمة”. فماذا بعد رفع السقف ومَن الجهة التي بامكانها تقديم الحلول اذاً؟ الاجابة رهن المجهول.