كتبت رحيل دندش في “الاخبار”:
تراجع عدد الولادات في لبنان عام 2020 بأكثر من 15% عن العام الذي سبقه. فيما يتوقع أن تسجل أرقام هذا العام مزيداً من التراجع. مع اشتداد الأزمة الاقتصادية لم يعد إنجاب الأطفال في متناول أكثر الأسر اللبنانية بسبب التكاليف المالية الباهظة التي يرتّبها، ما دفع بكثيرين إلى العزوف عن الزواج أو إلى اختيار «العُقم الطوعي».
لم يعد لبنان بلداً «آمناً» لإنجاب الأطفال بعدما ضربت الأزمة الاقتصادية كلّ المقوّمات الأساسية والضرورية لبناء أسرة. «مش قادرين نقوم بحالنا، حتى نجيب ولد نظلمه معنا»، لسان حال كثيرين من المتزوّجين ممن أجّلوا مشروع الإنجاب بسبب الخوف من المستقبل المجهول الذي يخيّم على البلاد، وعدم وجود خطة ورؤية للخروج من الانهيار الاقتصادي. ففي ظل الغلاء الفاحش لم يعد الآباء، الجدد منهم والقدماء، قادرين على تأمين التكاليف المطلوبة لتربية طفل. لذلك، بات الإحجام عن توريط أجيال جديدة في الجحيم اللبناني خياراً وحيداً أمام كثيرين من المتزوّجين «القدماء» و«الجدد».
يرتّب الإنجاب تكاليف مالية باهظة، قبل الولادة وخلالها وبعدها، مما لم يعد في متناول أكثر الأسر اللبنانية. تُرجم ذلك تراجعاً في عدد الولادات بنحو 15,5% من 86,584 عام 2019 إلى 74,049 عام 2020، بحسب أرقام المديرية العامة للأحوال الشخصية. وواقع التدهور المستمر يشير إلى أن هذه الأرقام ستشهد مزيداً من الانهيار نهاية العام الجاري. علماً أن نسبة الولادات في لبنان تراجعت إلى النصف (50 في المئة) عمّا كانت عليه في السبعينيات، وسُجلت النسبة الكبرى من التراجع في السنوات العشر الأخيرة.
الباحث المتخصّص في علم اجتماع الأسرة زهير حطب يلفت إلى تراجع الإقبال على الزواج بعد الأزمة الاقتصادية بنسبة تصل إلى ما بين 40 و43 في المئة، «وتقريباً، نصف المؤهّلين للزواج عزفوا عن هذه الخطوة، ولم يعد يفكر فيها إلا المقتدرون مادياً، بعدما وصلت نسبة الفقراء بين اللبنانيين إلى 73 في المئة، فكيف يجرّ الشاب على نفسه عبء التزام تأسيس أسرة». وبطبيعة الحال، انعكس ذلك تراجعاً في أعداد الولادات، «وحتى من أقدموا على الزواج خلال هذه الفترة، يتريّث كثيرون منهم قبل إنجاب طفل ويراجعون حساباتهم على ضوء المعطيات الراهنة».
بحسب حطب، لا يرتبط تراجع الإنجاب بالكلفة المادية فقط، «وحتى من ينتمون إلى طبقة متوسطة أو مرتاحة مادياً يعزفون عن الإنجاب وتربية طفل في ظل وضع اجتماعي وأمني تعسٍ»، لافتاً إلى أن معظم من أنجبوا أطفالاً في هذه الفترة لم يفعلوا ذلك نتيجة قرار إرادي.
«في اللحظة التي تنقطع فيها الكهرباء أشعر بالذنب لأنني أنجبت طفلي» يقول هادي. أما بالنسبة إلى سارة، فإن «الإنجاب في لبنان اليوم يشبه ارتكاب جريمة أن تحمّل كائناً جديداً الحياة في ظل الذلّ والمتاعب».
منسّق اللجنة الوطنية للأمومة المأمونة الدكتور فيصل القاق يؤكد أن عدم وجود سياسة اقتصادية في لبنان، يحول دون التفكير بالإنجاب. «المناخ العام الحالي في البلد لا يشجّع على أي نشاط أو خطوة مهمة، فكيف بإنجاب طفل؟ إنها خطوة دونها استعدادات وأعباء قد تكون جسيمة ولا قدرة للعديد من الأزواج على القيام بها».
فواقع الحال أن الحمل والإنجاب باتا عملية مكلفة لشريحة واسعة، بدءاً من كلفة العناية الصحية بالحامل التي تحتاج إلى ما معدّله تسع زيارات للطبيب خلال فترة الحمل، تكلّف كل منها بين 200 ألف ليرة و300 ألف، ناهيك عن كلفة صورة الـ«إيكو» لتقصّي أي خَلقية لدى الجنين والتي تُراوح بين مليون ليرة ومليونَي ليرة. وتكلف أدوية الحديد والمكمّلات الغذائية التي تحتاج إليها الحامل بين 250 ألف ليرة و350 ألفاً شهرياً بالحد الأدنى، من دون احتساب أي كلفة إضافية تتعلق بمشاكل أخرى قد تحتاج إلى فحوصات وأدوية إضافية.
أما كلفة الولادة فتُراوح بين 12 مليون ليرة و20 مليوناً بحسب الدرجة الاستشفائية وطريقة الدفع وفروقات التأمين والإجراءات الطبية المطلوبة، أضف إليها كلفة أي مضاعفات تتعرّض إليها الحامل خلال الولادة قد تستدعي إجراءات طبية إضافية.
أضف إلى ذلك كله مصاريف ما بعد الولادة من حليب وحفاضات ولقاحات ومعاينات وأدوية وثياب وغيرها من المستلزمات.
كل هذا يجعل من الأمومة والأبوّة حلماً بعيد المنال، وقراراً يستدعي كثيراً من التروّي قبل الإقدام عليه.
وإلى الأوضاع الاقتصادية، يعدّد القاق أسباباً اجتماعية لتراجع الولادات، منها «الميل السلوكي» (الترند)، إذ لم يعد هناك ميل إلى نمط الإنجاب نفسه كما في السابق، رغم أن بعض المناطق في عكار والبقاع لا تزال خارج هذا النمط. كما أن تأخّر سنّ الزواج أحد العوامل المساهمة في تراجع نسبة الولادات. فالمرأة عندما تتزوّج في سنّ الـ 35 لا تنجب العدد نفسه من الأطفال كما لو تزوّجت في سنّ العشرين، علماً أن عقود الزواج سجّلت تدنياً بنسبة 18 في المئة في السنوات الأربع الماضية.
كل هذا اليوم جعل معدل التزايد السكاني يسجل 1.002 بحسب حطب، فـ«مستوى الخصوبة صار متدنياً بما يحول دون تجدّد الأجيال». ويوضح «أننا حتى لم نعد نصل إلى معدلات الإحلال (أي أن كل ثنائي يجب أن ينجب طفلين بديلاً عنهما بعد الوفاة) ليبقى عدد السكان ثابتاً». لذلك، فإن هذا التراجع الإنجابي، مترافقاً مع ارتفاع معدلات الهجرة، ومع الوفيات، كلّ ذلك سيجعل عدد سكان لبنان في تراجع مطّرد، ما يشكل خطورة على الثبات السكاني، ويرتّب أعباء هائلة على الاقتصاد والمجتمع في السنوات المقبلة، إذ إن الولادات الخام لا تعوّض النقص بسبب الهجرة والوفاة.
وفي هذا السياق، ثمّة خشية من أن يكون «الإحلال السكاني» غير لبناني. فبحسب القاق، سجّل عام 2018 نحو 68 ألف ولادة لبنانية و59 ألف ولادة غير لبنانية غالبيتها لنازحات سوريات، وهو «ما يفرض واقعاً سكانياً واجتماعياً وبنيوياً مختلفاً عن السابق، وهي مشكلة لا تحتاج إلى التوصيف فقط، بل إلى إجراءات وسياسات عاجلة» يقول حطب.