كتب علي زين الدين في الشرق الأوسط:
تتفاقم الفوضى في أسواق الاستهلاك في لبنان بصورة غير مسبوقة مع انحدار متواصل بوتيرة يومية وأكبر حجماً للتدهور المعيشي، مما ينذر بتكوين موجات اضطرابات اجتماعية تتعدى نطاق الاعتراضات السلمية عبر التظاهرات وقطع الطرق، لتبلغ حدود الإخلال بالاستقرار الأمني الهش، في حين تعجز القدرات الشرائية لمتوسطي الأجور عن اللحاق بالحد الأدنى من أكلاف النقل والتدفئة دون غيرها في بداية فصل الشتاء.
وتبدو الترقبات في الأوساط كافة سلبية للغاية، مع تضافر العوامل الضاغطة سلبياً في توقيت متزامن. وهو ما شكل مناخات ملائمة، بحسب المحللين والخبراء، لتجدد المضاربات على سعر صرف الليرة مقابل الدولار والتحسب التلقائي لمزيد من التدهور في تسعير المواد والسلع.
ويزداد الوضع تأزماً مع خطابات التصعيد الداخلي على الجبهة السياسية التي تسببت بإيقاف قسري لاجتماعات مجلس الوزراء، والتي وصلت إلى الميدان القضائي في مقاربة ملفي انفجار مرفأ بيروت وصدامات الطيونة في الأسبوع الماضي، بموازاة توقف الدعم التمويلي للسلع والمواد الأساسية واقتصاره على بعض الضرورات «القصوى» كالقمح والأدوية المخصصة للأمراض المزمنة والمستعصية.
وتزداد التوقعات بأيام صعبة وغلاء إضافي، مع لهيب أقوى لأسعار المشتقات النفطية تبعاً لارتفاع أسعار النفط في الأسواق العالمية والمخاوف من تجاوز سعر الدولار محلياً عتبة 21 ألف ليرة. وينعكس ذلك على اضطرابات في أسواق الاستهلاك، حيث يمكن بسهولة رصد التفلت والمزاجية في احتساب الأسعار للمواد والسلع كافة وفق تسعير مزاجي للدولار عند مستوى 25 ألف ليرة، سواء كانت مستوردة بالعملة الصعبة أو منتجة محلياً، بينما يتعذر على إدارات الرقابة وحماية المستهلك القيام بجهود وقائية كافية.
ولعل الأشد وطأة في ترقبات التضخم الذي دفع نحو 80 في المائة من السكان إلى ما دون خط الفقر في الحقبة الأولى للأزمات النقدية والمالية المستفحلة، هي التداعيات المحققة والمتوقعة على أبواب إنفاق المستهلكين التي تم تحييدها نسبياً عن موجات التضخم الأولى عبر الدعم التمويلي الذي تقلص تباعا في الأشهر الماضية ليبلغ أخيرا مستوى الجفاف عقب النفاد التام للاحتياطات الحرة من العملات الصعبة لدى البنك المركزي، علماً بأن حصيلة الدعم تكفلت بتبديد نحو 11 مليار دولار من دون تحقيق أي تصحيح محسوس في الاختلال الحاد للتوازن المعيشي.
أما الأخطر على الإطلاق في احتساب مؤشر الغلاء، مع صعوده الحاد ليبلغ مستوى 144 في المائة على مدى سنوي بين نهاية شهر سبتمبر (أيلول) الماضي وسابقه في العام السابق، فيكمن بتسجيل ارتفاع صاروخي بنسبة تتعدى 212 في المائة في بند الكلفة الصحية، وسط انهيار محسوس في قدرات المؤسسات الحكومية الضامنة وتقلص حاد في الاستجابة من قبل شركات التأمين، باستثناء العقود المحررة بالدولار النقدي، فضلاً عن الارتفاعات الحادة للطبابة وأسعار معظم الأدوية التي خرجت من منظومة الدعم.
وبالتوازي، سجلت أسعار المواد الغذائية والمشروبات ارتفاعا بنسبة 281 في المائة على مدار سنة المقارنة، وارتفعت الكلفة المجمعة لبند المحروقات والكهرباء والمياه والغاز المنزلي بنسبة يقارب متوسطها 183 في المائة وفقا للإحصاءات الميدانية التي توثقها إدارة الإحصاء المركزي. ولاقاها بند النقل بتسجيل ارتفاعات تراكمية بنسبة 357 في المائة. كذلك ارتفع بند كلفة الألبسة والأحذية بنسبة 166 في المائة، وزادت أكلاف خدمات المطاعم والفنادق بنسبة 294 في المائة.
وفي الحساب التراكمي، يقدر أن متوسط مؤشر الغلاء تخطى عمليا نسبة 700 في المائة منذ انفجار الأزمات في لبنان بدءا من أكتوبر (تشرين الأول) 2019، مع تسجيل ارتفاعات أعلى في كثير من أبواب إنفاق حيوية. فأسعار المشتقات النفطية، كنموذج مؤثر تلقائياً في سائر البنود، تعدت بالمتوسط 10 أضعاف مثيلاتها السابقة، لتنسجم مع واقع التدهور المريع لسعر صرف الليرة بما يماثل نحو 93 في المائة من قيمتها. والأمر عينه ينطبق على كامل منظومة السلع المستوردة التي باتت تحتكم إلى أسعار افتراضية تتخطى بنحو 20 إلى 25 في المائة السعر المتداول للدولار في الأسواق الموازية الذي تظهره التطبيقات الهاتفية، وذلك بذريعة التحسب المسبق أو بالاستناد إلى تغريدات وتحليلات باتجاه الدولار إلى ارتفاعات قياسية جديدة.
وتشي هذه المؤشرات والترقبات فعلا بتحول كارثي في مسار الأزمة المعيشية صوب الانفجار الحتمي، بحسب ما يحذر خبراء. فمع انحدار الحد الأدنى للأجور إلى ما يماثل بدل صفيحتي بنزين أو مازوت أو غاز، يمكن الاستنتاج، بحسب المتابعين واستطلاعات ميدانية، أن أحوال الناس لن تحتمل إضافة قساوة برد الشتاء إلى واقع التقشف الصارم الذي فرضه التضخم المفرط والمستمر دون هوادة على مدى عامين ونيف، ولا سيما عقب انحسار المكتسبات الجزئية التي رافقت انطلاق الحكومة الجديدة وانخراط الأطراف الداخلية في إدارة استحقاق الانتخابات النيابية بعد أشهر قليلة.
وبدا لافتاً في نطاق الإجراءات الوقائية، إعلان وزير العمل مصطفى بيرم، أن وزير الشؤون الاجتماعية تقدم بتعديلات تخص البطاقة التمويلية الموعودة وقد تقر في الجلسة النيابية المقبلة.