كتب علي شندب في “اللواء”:
غالباً ما ينجح زعيم حزب الله في حسم معاركه دون أن يخوضها. غالبية المعارك يحسمها بخطاب، سرعة حسم المعركة مرتبط بحدة نبرة الصوت وقياس مدى حدوئه وغضبه وحزمه، وغالبا ما يـضـاعـف مـن وقـع وتيرة وسرعة الحسم، رفع حركة رفع إصبعه الشهيرة الى الأعلى والأسفل مرفوقة بعبارات التهديد والوعيد. ومن رفع الإصبع وتحريكه تنطلق الرسائل غير المشفرة بالإتجاهات المطلوبة ليتأمن الإنصياع والإصطفاف ضمن أطراف المنظومة وفقا لمشيئة إصبع زعيم حزب الله.
مـا تـقـدم أعـلاه، لا يشكل مـدحـا ولا قـدحـا بـحسن نصرالله، إنـه توصيف وقائع الحال في سياقات الحروب النفسية التي يعتمدها الرجل. وكأن هذه الحروب النفسية باتت عند نصرالله علما منفصلاً عن علم النفس او علم الإجتماع السياسي ومتصلا بأسلوب الخطابة على أزيز الرصاص وصليات الصواريخ.
وتبدو عـدة شغل نصرالله النفسية متوازيـة مـع استراتيجيات في السيطرة والهيمنة والـتغوّل على الآخـريـن بهـدف تخضيعهم وتـرضـيخهم لمشيئته ضمن مشروع «أيـرنـة» لبنان، تحت شعار «حمايتهم من أنفسهم» ومن دون أن تجد من يطوعها ويستثمرها أحد بقدر ما أسهب نصرالله في الافادة منها ولمّا يزل. صحيح أن وقائع لبنان السابقة، أثبتت أن سلاح نصرالله كان محل إعجاب اللبنانيين والعرب عندما كان يستخدمه في الحرب النفسية مع اسرائيل في سياق ما يعتبره ردعا يمنع اسرائيل من محاولة التفكير في الإعتداء على لبنان، سوء تقدير نصرالله وخـطـأ حـسابـاتـه جـعـلاه يعتقد أن حروبه النفسية التهويلية هذه تحافظ على ذات الإعجاب بـه عـنـدمـا يستخدم أسلحته النفسية وغير النفسية في الداخـل اللبناني والدواخل العربية.
بعض الوقائع المستجدة بينت أن صـواريـخ نصرالله النفسية قد بهتت وفرغت من مضامينها ومفاعيلها في الـحسـم السريع، وعلى سبيل المثال يفيد التذكير بأن أحداث الحزب مع عشائر عرب خلدة والتي انتهت بحوادث دامية، كشفت عن رفض العشائر محاولات حزب نصرالله المستمرة في إخضاعهم وترهيبهم ودفعهم من خلال توتيرهم الى الوقوع بفخ التصدي لتجاوزات بعض الحزبلّاهيين. وهو التصدي الـذي تمكن نصرالله مـن لـجـمـه عبـر تظـاهـره بـالاحتكام لسلطة الدولة واجهزتها الأمنية والقضائية التي حكمت بالسجن على شباب خلدة بمدد تتراوح بين ثمانية وخمسة عشر عاماً، وطبعا من دون توقيف متسبب واحد من الحزب في حادثة خلدة.
كما إن حادثة أهالي شـويّـا مـع راجمة صواريخ الحزب ومقاوميه بينت حجم المساس بهيبة الحزب واستعداد الناس للتجرؤ على ما كان يعتبر يوما من المقدسات لديهم، وأخيرا بنت واقعة الطيونة حجم المفاجأة الصادمة التي تلقاها الثناني الشيعي وخصوصا حزب الله والتي انتهت بسبب المغالاة في التهويل بفائض القوة إلى مقتلة مؤسفة يحاول التحقيق العسكري فك شفرتها وسط تعدّد الروايات الأمنية والعسكرية فضلا عن روايات وتجاذبات الأطراف المعنية بها.
المنفحّص لهذه الحوادث الـلافتـة يكتشف ضيق ذرع الناس من سياسات حزب الله المنطلقة من فائض القوة السياسية والحربية والنفسية والتي قوضت حياة اللبنانيين ومستقبلهم، وذهبت بهم وبـاقـتـصـادهـم إلى الجحيم ومـا بـعـد بعد فنزويلا، سيما وأن هذه السياسات لطالما انتصبت على المعادلة التخادمية غير السحرية بين حـزب الله وحلفائه في منظومة الحكم والفساد والتيترانيوم، وخصوصاً شريكه في تفاهم مار مخايل التيار الوطني الحر ووريثه جبران باسيل .. « غطوا على سلاحنا نغطي على فسادكم». أو «غطوا على فسادنا نغطي على سلاحكم».
وكـمـا تـنبه نصرالله الى انـتهاء مـفـاعـيل حـروب ايـران النفســية وصـواريخها الصوتية القادرة على تدمير اسرائيل خـلال 7 دقائق ونصف ، بدليل سحبها من التداول بلسان قائـد الحرس الثوري بحجة أن الظروف غير مؤاتية . يبدو أنه تنبّه أيضا إلى انتهاء مفاعيل حروبه النفسية في الداخل اللبناني خصوصا بعد حادثة الطيونة التي سقط فيها عدة قتلى وعشرات الجرحى للثنائي الشيعي غالبيتهم من حـركـة أمـل في سياق مظاهرة هـادفة لتنحية المحقق العدلي في إنفجار مرفأ بيروت طارق البيطار.
إنـهـا الـمظاهرة التي تولى نصرالله شخصياً التعبئة والحشد لها ميدانيا، في الشارع وسياسيا، في مجلس الوزراء الذي بات انعقاده معلقا على خشبة تنحية المحقق العدلي طارق البيطار، حيث تؤكد مـواقـف قـادة حزب الله ان استمراره في مهامه التحقيقية بانفجار المرفأ يشكل خطرا وجـوديا على حزب الله اين منه خطر داعش والإرهاب التكفيري كما يسميه نصرالله الذي يبدو أنه اكتسب خبرة ومناعة مضاعفة من معمودية المحكمة الدولية باغتيال الحريري، فتظاهر بعدم الخوف والقلق من اقتراب حبل التحقيق من عنق حزب الله، وأعلن أن الخوف وما بعد القلق هو على رئيس الحكومة السابق المسكين والمستضعف حسان دياب، ورب متسائل بخبث عن موقف نصرالله فيما لو كان المستضعف هو فؤاد السنيورة !
رغـم هـذا لـم يـنحُ نصرالله صواريخه النفسية جـانبا، بل عمد الى إطلاق صلية نادرة وغير مسبوقة منها في تـاريـخ المقاومة ضد اسرائيل، أو في معاركه الإقليمية المتمادية من سوريا الى سدّ مأرب. ولأن لسان نصرالله يمثل كل حزب الله السياسي ونصفه العسكري اضطر في سياق الحرب النفسية ضد خصوم الداخل وحلفائه معاً من باب حصر التصويب بالقوات اللبنانية ورئيسها دون تسميته إلى البوح بأغلى أسرار الحزب الثمينة والمجاهرة بامتلاك 100 ألف مقاتل «لو أشير لهم على الجبال لأزالوها».
وبقدر مـا يستظهر رقـم الـ100 ألف مقابل الذي كشفه نصر الله تغوّلاً في القوة من باب عدم التهديد بالحرب الداخلية، لتكون رادعاً لكل مـن تـسـول له نفسه التفكير بها، بقدر ما يستبطن تهديدا بالحرب واستعدادا لخوضها، ليس ضد القوات اللبنانية وحدها بل وضد كل من سواها، وضمنهم حليفه القوي ميشال عون بسبب عدم مجاراته ووريثه جبران باسيل في معركته الـوجـودية وعنوانها المركزي الإطاحة بالمحقق العدلي.
السائد، أن أمين عام حزب الله لا يطلق كلامه على عواهنه، فالنص الصامت عادة ما يفضح بين الكلمات وما في الصدور وليس بين السطور فقط، ما يستبطنه النص الناطق، لكن الذي دفع زعيم حزب الله الى كشف سر عديد قواته هو استشعاره لخطورة التجرؤ المتكرر عليه والنيل من هيبته التي بنيت بفوائض الاحترام ثم تبخرت، ويريد نصرالله اليوم تثبيتها بفوائض القوة على الجميع وضمناً الجيش اللبناني، الذي لا يحتاج لأكثر من نصف بيان وليس خطاب حتى ينقسم ألـوية مـناطـقية ومذهبية عرفها الجيش في محطات كثيرة لعل آخـرهـا في عهـد الحكومة العسكرية برئاسة ميشال عون، وعندها ربما يتصدر المنبر وليس المجلس التنفيذي بالحزب هاشم صفي الدين ليحدثنا بتفاصيل أكثر عن المديات التي بلغتها معركة استئصال النفوذ الأميركي في أجهزة الدولة والجيش خاصة، مـا قـد يـدفـع الحـزب الى فـرزهـا وتصنيفها وتقسيمها ثم تطهيرها من دنس الأميركيين والبيطاريين.
لهـذا فـرقـم الـ 100 ألـف مـقـاتـل الـذي فرط به نصر الله من باب التهويل على سمير جعجع، هو في استهدافاته الأساسية رسالة بالبريد السريع للاميركيين ( الذين أحيوا بالأمس ذكرى مقتلة المارينز الشهيرة في بيروت ) مفادها بأن عليهم تفحص وضعهم جيدا وإعادة النظر بخططهم التي كلما أراد نصرالله شد عصب محلول في مكان ما من بيئته الأساسية والواسعة لجأ إلى رفع خطاب المواجهة مع «الشيطان الأكبر» عند اللزوم، والعمل على إخراجه من المنطقة تارة بالثأر لقاسم سليماني وطورا لفك الحصار عن سوريا ولبنان.
لكن نصر الله لا ولم ينبس ببنت شفة حيال التخادم الأميركي الإيراني (المنطلق منذ غزو أفغانستان والعراق واحتلالهما) والمستمر في بورصة الرقصات النووية والجاحظ حتى للعميان في التحالف الدولي ضد داعش. وكلنا يعلم أنه ما كان لـجحافل قاسم سليماني أن تغزو أي مـديـنـة عـراقـيـة إلا بـرعـايـة الأميركيين وتحت حماية الأباتشي الاميركية.
وسط هذه المشهدية من حروب نصرالله النفسية يتعقد المشهـد اللبناني المنقسم حول المحقق العدلي بانفجار مرفأ بيروت واحداث الطيونة، وجديدها ما يروج عن استدعاء القضاء العسكري لجعجع الذي ربط مثوله أمامه بمثول نصرالله شخصيا. هذا الإنقسام المعزر بتنظيم نصرالله مضبطة اتهام سياسي قضائي ضد جعجع، وشى وكأن عناصر المقايضة بين تفجير المرفأ وواقعة الطيونة قد اكتملت فهل تنجز الصفقة ؟ أم يكون لمواقف خصوم حزب الله وخصوصا البطريرك الماروني بشارة الراعي الذي أكد الحرص على أن تشمل التحقيقات جميع الأطراف لا طرفا واحدا كأنـه هـو الـمسـؤول عن الأحداث « مساراً آخر.
الحكومة في كـومـا الـنأي بالنفس، ومـفاعيـل صـهاريـج المــازوت تبخـرت ودخـلـت بـورصـة البزنس، والأيام القليلة المقبلة حبلى بالتطورات، فلننتظر..