في مثل هذه الأيام قبل خمسة أعوام، كان زعيم «التيار الوطني الحر» العماد ميشال عون يستعدّ لانتخابه رئيساً للجمهورية، بعدما ساهم «اتفاق معراب» مع رئيس حزب «القوات اللبنانية» الدكتور سمير جعجع في تذليل أكبر عقبة أساسية من أمامه.
ورغم أن عون وتياره لا يحبّذان القول إن هذا الاتفاق بين الخصميْن المسيحييْن ساهم في عملية الانتخاب، إلا أن الوقائع غير البعيدة لا يمكن نكرانها، بغض النظر عن خلفيات دوافع موافقة جعجع ومعارضة بعض حلفائه المسيحيين لانتخاب عون، وأسفه لاحقاً على هذه الخطوة.
اليوم، بعد خمسة أعوام يبدأ عون سنته الأخيرة في قصر بعبدا، وجعجع كان مستدعى إلى مديرية المخابرات في الجيش للاستماع إليه بناء على إشارة من القاضي فادي عقيقي، وسط ترحيب لافت من حزب عون سياسياً وإعلامياً.
هي ليست المفارقة الوحيدة النافرة في عهد عون، الذي عاد إلى قصر بعبدا رئيساً للجمهورية وقد خرج منه رئيساً للحكومة الانتقالية على وقع القصف السوري (13 أكتوبر 1990)، بعدما شن حربين في عهده القصير آنذاك ضد «القوات اللبنانية» وضد سورية.
حين عاد عون إلى بعبدا في 31 أكتوبر 2016، تَحَقَّقَ لـ «التيار الوطني الحر» ومناصريه حلم عمره 30 عاماً. رقص العونيون فرحاً بـ «عودة الحق إلى أصحابه» ولأن «الرئيس القوي» سيعيد الازدهار والعز إلى لبنان.
لكن الحلم الذي هلّل له مناصروه وجزء من اللبنانيين، الذين كانوا يرون فيه منقذاً من الأزمات بعد فراغٍ رئاسي لنحو 30 شهراً وشلّ عمل المؤسسات، تحوّل وفق كلام عون نفسه إلى «جهنم» معيشي واقتصادي وسياسي وأمني. إذ انفجرت كل الأزمات في وجه حُكْمه، الذي كان يَعِد اللبنانيين بمعالجة أزماتهم.
ورغم أنه ليس مسؤولاً عن كثير من المسببات التي سبقت انتخابه لكنه في نهاية المطاف يتحمل مسؤوليتها بصفته رأس السلطة التنفيذية، وشارك في الحكومات المتتالية منذ عام 2005.
قد يكون أكبر حدَث أمني عرفه عهد عون وعُدَّ إنجازاً للجيش وتبيّن أنه كان أقرب إلى الصفقة الإقليمية، هي عملية «فجر الجرود» التي نُفذت العام 2017 في منطقة البقاع الشمالي – الشرقي، حيث تم دحر قوات «داعش» و«النصرة»، وتفكيك قواعدهما.
لكن الحدَث الأمني، بعد عام من تَسَلُّم عون مهماته، ظل فريداً. إذ ما لبثت أن توالت التحديات الأقرب إلى المصائب الفعلية. فبعد الإنجاز العسكري، وفي نوفمبر من العام نفسه قدم رئيس الحكومة سعد الحريري استقالته من الرياض، لتبدأ أول أزمة سياسية حقيقية تواجه عهد عون، الذي رفض الاستقالة وانتظر عودة الحريري بعد تدخل باريس. لكن الشرخ وقع بين بيروت والرياض.
كانت السعودية على تحفُّظها إزاء انتخاب عون والتسوية التي أبرمها الحريري معه.
ومع ذلك استقبلت رئيس الجمهورية في أول زيارة رسمية له إلى الخارج في مطلع العام 2017.
لكن الجفاء بين الطرفين ظل قائماً واتخذ أبعاداً أكثر حدة في ضوء مواقف عون وما أعقب عودة الحريري من انهيارات حملت معها بوادر الخلاف الجدي بين رئيس الجمهورية وجعجع، كما بين «القوات» والحريري.
انفجر الخلاف بين عون والقوات تدريجياً على خلفية التعيينات والمحاصصات. إذ إن القوات كانت تعتبر أن لها الحق في التعيينات والحضور في الإدارات عملاً بـ «اتفاق معراب».
لكن جبران باسيل وبعدما ضَمَنَ ورقة عون رئيساً للجمهورية لست سنوات، باشر مرحلة التحضير لخلافته، محاولاً استبعاد جعجع من السباق الرئاسي مبكراً.
فبدأ الخلاف يرسم معالم جدية من الافتراقات داخل مجلس النواب في قانون الانتخاب، وفي ملفات الطاقة التي يتولى التيار الوطني الحر حقيبتها منذ أعوام.
وفي مقابل صعود صاروخي لباسيل في وزارة الخارجية وفي جولاته وإمساكه بملفات رئاسة الجمهورية وتولي فريقه وزارات سيادية وخدماتية، كان الوضع بينه وبين «القوات» يمعن في الانفجار، وكذلك بينه وبين كل الحلفاء، حركة «أمل» والرئيس نبيه بري وتيار المردة وكل قوة سياسية أخرى ممتعضة من الدور الذي أعطاه عون إلى باسيل.
انتفاضة 17 أكتوبر 2019، ستبقى بارقة أمل في حياة اللبنانيين والشباب الذي نزل إلى الشوارع والساحات على مساحة لبنان. لكنها في المقابل ستبقى الذكرى التي كانت بداية الانهيار الفعلي في عهد عون.
توالت الضرباتُ القاسية منذ تلك الاحتجاجات، التي وإن فشلت لاحقاً في تحقيق أهدافها، إلا أنها كشفت عورات الحكم القائم والسياسات الاقتصادية والنقدية ومنظومة الفساد اللبناني.
وفي مقابل محاولات فاشلة لرئيس الجمهورية لتقديم معالجاتٍ للأزمة، بدأ الانهيار المالي على وقع إقفال المصارف أبوابها بحجة التظاهرات وبدء عملية تهريب الأموال خارج لبنان.
ووجد اللبنانيون أنفسهم بين ناريْن، فيما السلطة غائبةٌ عن التدخل فعلياً للإنقاذ، مقابل محاولتها تحييد نفسها عن المسؤولية.
وساهم انتشار وباء «كورونا» في وقف الاندفاعة الشعبية، واستفادت السلطة حينها منها لمنْع التجول وسحْب الناس من الشوارع، ونجحت في ذلك. أطل عون مراراً على الإعلام، لكنه لم يستطع أن ينقذ صورة العهد، لا بل أمعن المتظاهرون في تحميله المسؤولية.
وساهمت الانقسامات السياسية في تعميق الخلافات. وبعدما كان الحريري قدّم استقالته بعد 13 يوماً من انتفاضة 17 أكتوبر 2019 لتتشكّل بعدها حكومة برئاسة الرئيس حسان دياب، بدأ الانهيار الفعلي معها، تفاقم الخلاف بين العهد والحريري بما أطاح بكل ما جمعهما في التسوية الرئاسية.
عصر يوم الرابع من أغسطس 2020، هزّ انفجارٌ هائل العاصمة بيروت.
لم تكن الدقائق الأولى كافية لمعرفة حجم ما حصل وماذا حصل فعلياً. العاصمة التي عرفت انفجارات وحروباً ومعارك، كانت تشهد ثاني انفجار بهذا الحجم في العالم، بعد قنبلة هيروشيما. قُتل المئات وأصيب الآلاف ودُمر نصف بيروت.
وعاد لبنان محور اهتمام عالمي – إنساني لتقديم المساعدة في الكشف عن المفقودين والمساعدة في الاستشفاء والإغاثة وتقديم كل عون ممكن لآلاف العائلات المشردة.
الانفجار الهائل دمر روح العاصمة، لكن السلطة أمعنت في مكابرتها حيال مسؤوليتها عما يجري من تدمير ممنهج للحياة اللبنانية.
انهار الوضع المالي أكثر وفقد اللبنانيون مدخراتهم وارتفع سعر الدولار تدريجياً في صورة منظّمة ومقصودة، وتراجع مستوى الخدمات الطبية والاستشفائية.
اختفت الأدوية من الصيدليات وارتفعت أسعار المنتجات والمأكولات بين ثلاثة وأربعة أضعاف أسعارها الأصلية، ووقف اللبنانيون طوابير للحصول على صفيحة بنزين ارتفع سعرها عشرة أضعاف، وفقدان مادة المازوت وتوقف الشبكة الكهربائية، فيما بقيت الرواتب على حالها وفقدت قيمتها جراء انهيار العملة.
استقال دياب على وهج «بيروتشيما» وأتى الحريري مكلفاً (أكتوبر 2020) من دون أن ينجح في تشكيل حكومته بفعل تصلب العهد ضده. وجاء الرئيس نجيب ميقاتي (10 سبتمبر الماضي) على رأس حكومة مهمتها الإشراف على الانتخابات النيابية في مارس المقبل.
لكن الحال الداخلية ظلت على انهيارها، التحقيق في انفجار المرفأ ساهم في تعميق الأزمة بعد رفض عون وبري و«حزب الله» و«المستقبل» التحقيق مع المحسوبين عليهم من مسؤولين سياسيين وأمنيين.
وتشاركت المنظومة السياسية في العمل على حماية مواقعها، رغم أنها ظلت رافعة شعار معرفة الحقيقة في انفجار بيروت.
وانفجرت أحداث الطيونة في 14 أكتوبر الجاري فأضفت على احتفالات العهد بانتخاب عون، مسحة حربية وعسكرية، بعد سقوط 7 ضحايا واستدعاء جعجع إلى التحقيق.
فُتحت صفحة جديدة من صفحات الأمن المتعثر والساحة المهتزة تحت وطأة انهيار العهد داخلياً وفشله في استعادة زمام الأمور والذهاب نحو تسويات داخلية.
استفاد «التيار الوطني الحر» مما حصل ليعيد تصويب المعركة ضد غريمه جعجع، فيما الانهيار على كل المستويات ما زال على أشده.
في مثل هذه الأيام انتُخب عون رئيساً للجمهورية، الرجل الذي حلم بوصوله كثيرون وما زالوا يأملون منه بمعجزة، دخل لبنان في عهده التاريخ من أسوأ أبوابه على متن فواجع ليس أقلها تقلُّبه على جمر واحدة من بين ثلاث أشد أزمات اقتصادية في العالم منذ 1850.
العهد الذي دشّن إطلالاته الخارجية في يناير 2017 بزيارة للسعودية لترميم علاقاتٍ مهتزة معها ومع دول الخليج العربي، يدخل الأشهر الـ 12 الأخيرة من ولايته على وقع أزمة ديبلوماسية حادة مع الرياض ومجلس التعاون والخليجي، تعكس الأضرار الفادحة لتمادي انزلاق لبنان إلى الحضن الإيراني وابتعاده عن الحاضنة العربية… فهل يُنْهي عون سنته الأخيرة كما أنهاها في عام 1990 حين ترك قصر بعبدا ولبنان في حال دمار وانقسامات وتدخلات خارجية؟
«القوات»… القوة الثانية
جاء حدَث العام 2018، أي الانتخابات النيابية وفق قانونٍ يَعتمد للمرة الأولى النسبية ممزوجة مع الأكثرية، ليزيد من الخلاف المسيحي – المسيحي، بعدما حققت «القوات اللبنانية»، تقدماً ملحوظاً في تحصيل المقاعد النيابية على «التيار الحر»، الذي ضم إلى صفوفه مجموعة من الحلفاء الذين تخلوا عنه لاحقاً بعد انتفاضة 17 أكتوبر 2019. وتكرست تالياً القوات القوة المسيحية الثانية، كما اشتد الخلاف مع العهد.
شبح التظاهرات
أثناء انتفاضة 17 أكتوبر 2019، حاول عون إبعاد شبح التظاهرات عنه والنأي بالنفس عن تحميله المسؤولية.
ورغم أنه فعلاً لا يتحمّل مسؤولية الانهيار الكامل، إلا أن أداء السلطة ككل منذ لحظة التظاهرات ورفْضها قطع الطرق وطلبها من الجيش التدخل، لمنع إقفالها من المتظاهرين خلط الحابل بالنابل وجعل الساحة عرضة لاهتزاز غير مسبوق، خصوصاً في ضوء ما تسبّب به ذلك من صدامات بين الجيش والمتظاهرين، فضلاً عن مواجهات حصلت في وسط بيروت وإصابة العشرات بالرصاص الحي وبالهراوات، ناهيك عن أساليب القمع المتعددة خصوصاً من جانب شرطة المجلس النيابي، والمواجهات بين جمهور التظاهرات وجمهوري حركة «أمل» و«حزب الله»، ودخول «القوات» و«المستقبل» والحزب التقدمي الاشتراكي على خط المتظاهرين.
انقسامات داخل «التيار»
لم يترك عهد عون آثاره فحسب على الساحة السياسية عموماً. إحدى أكثر سلبياته ما جرى داخل صفوف «التيار» بعدما تفرقت أولاً «خلية السبت» التي كانت مؤلفة من مستشارين تحلّقوا حول عون، وبدأ انفراط عقدهم بعد وصوله، ومن ثم تضعضع فريق المستشارين في القصر الجمهوري، وخرجت ابنتا عون ميراي وكلودين من الحلقة الأقرب إليه.
في موازاة ذلك، ساهم تثبيت الوزير جبران باسيل قواعده في القصر وفي التيار في إحداث انقسامات داخل التيار، في ضوء تصاعد نجم المقربين من باسيل على حساب الكوادر القديمة والمناضلة.