كتب طوني عيسى في “الجمهورية”:
في العام الأخير من العهد، درجةُ الغليان ارتفعت داخل «البيت الماروني» إلى حدود مقلقة. فالمسألة تجاوزت التنافس على الزعامة والرئاسة إلى «حزب الإلغاء»، حيث الضربات «تحت الزنّار» تُستخدَم بلا رحمة. وفي المبدأ، هذه الضربات يلجأ إليها الذكَر لشلّ قدرات الخصم الذكَر، إذا لم تنجح إزاحته بالضربات المشروعة. فهل وصل «دُيوك الموارنة»، أو بعضهم، إلى هذا الإقتناع؟
في حادثة الطيونة، يرفض الرئيس ميشال عون أي تدخُّل سياسي في شؤون العسكر والقضاء يقود إلى تسوية. وهو يفضّل الذهاب بالملف إلى إدانة «مؤكّدة» للدكتور سمير جعجع.
لا يكشف عون بوضوح أنّه يُحمِّل جعجع مسؤوليةً معينة. لكن رئيس «التيار» جبران باسيل، قالها صراحةً: «لا لطمس الحقيقة في انفجار المرفأ، مقابل تأمين براءة مُجرِم» في الطيونة. وهذا يعني أنّ فريق عون لا ينتظر القضاء ليتَّهم جعجع. هو يتحمَّس لإدانته قبل المحاكمة.
في العادة، في المسائل التي تعنيه، يرفض فريق عون أي اتهام في قبل أن يقول القضاء كلمته. مثلاً، عندما أجمعت مكوِّنات ثورة 17 تشرين على اتهام باسيل وفريقه بارتكاب صفقات غير مشروعة في الوزارات والإدارات، سارع عون إلى الردّ: كل اتهامٍ لا يُثبته القضاء مردود.
ولكن، اليوم، في ملف الطيونة، يطبِّق فريق عون على خصومه منطقاً معاكساً. والضربة التي يوجّهها إلى جعجع هنا توصف بأنّها «تحت الزنّار»، لأنّ تداعياتها سلبية جداً على مستويين:
1- لأنّ حصر المسؤولية عن سقوط الضحايا الشيعة بالجانب المسيحي مؤذٍ لصورة المسيحيين عموماً، وهو يترك ترسبات بعيدة المدى وطنياً.
2- لأنّ إضفاء صفة «مجرم» على جعجع له تداعياته على الرجل وحزبه.
وكما في الطيونة، كذلك في المرفأ، يُصرُّ عون على استمرار المسار القضائي كما هو، لأنّ المستهدف هنا هو الرئيس نبيه بري ورئيس «المردة» سليمان فرنجية. ولا يجد فريق عون مصلحة في «إطفاء» ملفي المرفأ والطيونة سياسياً ما دام المسار القضائي، كما هو اليوم، مريحاً له.
ومع أنّ هذا الموقف سليم في منطق المؤسسات، فإنّ من غير الطبيعي الاعتراف استنسابياً بدور القضاء هنا، فيما يتمّ إقصاء أي دور له في المراقبة والمحاسبة، في كل المؤسسات والتلزيمات وتتبّع عمليات التهريب والتحويل والتزوير، وفيما الفساد يتجذّر مالياً واقتصادياً ونقدياً وإدارياً وأمنياً، ولم تنفع ضغوط المجتمع الدولي وعقوباته في تحريك ملف واحد!
إذاً، يستثمر فريق عون ملف المرفأ ورقة ضغط سياسي في المعركة الشرسة مع بري. ويريد به إضعاف «الخصم الرئاسي» المسيحي، أي فرنجية. كما يريد من ملف الطيونة تعطيل العلاقة بين بري و»الخصم الزعاماتي» المسيحي، أي جعجع.
ولذلك، ذهب باسيل إلى اتهام «ثنائيّ الطيونة والمرفأ بالتواطؤ على دمّ الناس في الشارع». وبهذا الموقف يذهب باسيل إلى حدّ تحميل بري مسؤولية عن إهدار دم الناس في المرفأ، كما تحميل جعجع مسؤولية عن إهدار دمهم في الطيونة. وهذا يُعتبر ضرباً للرجلين «تحت الزنّار». ولا مشكلة لدى باسيل في ذلك، ما دام الأمر لا يمسّ بـ»حزب الله».
في الموازاة، جاء تسريب فيديو وزير الإعلام جورج قرداحي الذي استفزّ المملكة العربية السعودية في توقيت سياسي دقيق. وكان من حسن حظّ فريق عون وباسيل أن يقوم مجهول بتسليط الضوء على هذا الفيديو القديم، والتسبب بمشكلة لا لقرداحي بل لفرنجية.
فلا شيء أفضل من ذلك لضرب الحظوظ الرئاسية لرئيس «المردة»، المصنَّف «مقبولاً» إجمالاً في الرياض. أو هو على الأقل، أفضل بكثير من باسيل بالنسبة إلى السعوديين، في مرحلةٍ سيحتاج فيها لبنان إلى المساعدات الخليجية للخروج من وضعية الانهيار.
وهذا أيضاً ضربٌ «تحت الزنّار»، لا لفرنجية والفريق الداعم له فحسب، ولحكومة ميقاتي، بل للبلد ككل في لحظة الحاجة الماسّة إلى تحسين العلاقة مع السعودية وفك الحصار عن المساعدات.
في المقابل، هناك ضربة «تحت الزنّار» يسدّدها جعجع ضدّ باسيل، بوقوفه مع بري في ملف قانون الانتخاب. والأرجح أنّ رئيس «القوات» قرّر تنفيذها بعد ساعات من حادث الطيونة، وتحت ضغط الوضع السياسي والقضائي والأمني الذي واجهه في تلك اللحظة.
وليس واضحاً إذا كان مناسباً للقوى المسيحية، ولتمثيل المسيحيين في البرلمان المقبل، ولدورهم في انتخابات الرئاسة المقبلة، أن يقبلوا بتقريب موعد الاستحقاق من أيار إلى آذار، وأن يتخلّوا عن المقاعد الـ6 للمغتربين، وحتى عن «الميغاسنتر»، لكن الانقسام المسيحي صار واقعاً. و»حزب الله» هو الأقدر على الحسم في هذا الملف.
وفيما البلد يغرق في اهترائه، يجد «ديوك الموارنة» وقتاً لينخرطوا في «حرب إلغاء» جديدة. فالكل يقنِّص على الكل، والكل يقتنص الفرص من الكل.
والركض نحو بعبدا لا يبدأ من ساحة النجمة، ولا حتى من عنابر المرفأ وزواريب عين الرمانة، بل يقتضي اللف والدوران حول عواصم القرار الإقليمي والدولي.
إنّها لعبةِ مَزادٍ علني ومستتر، وفيها فقراء المسيحيين وحدهم جاهزون لدفع الثمن… كما دائماً.