كتبت جوسلين البستاني في “الجمهورية”:
عندما دعا البطريرك مار بشارة بطرس الراعي منذ أكثر من سنة الى انعقاد مؤتمر دولي لتناول مسألة حياد لبنان والعمل على إنقاذه من الهلاك، أتاه الردّ السلبي من «حزب الله»، الذي سبق وأعطى رأيه في هذا الموضوع قبل8 سنوات، على لسان نائبه محمد رعد حين قال: «إنّ الوسطية الحيادية هي انحياز لمعسكر الباطل عن قصد أو عن غير قصد».
عوّدنا «حزب الله» على إطلاق الأحكام الأخلاقية كأسلوب يهدف أولاً وآخراً الى قطع الطريق على أي نقاش حول الموضوع المستهدف، ذلك أنّ تقييم الحق والباطل يرتبط بمزايا محدّدة ثقافياً، وبالهوية الاجتماعية والدينية التي من الصعب التطرّق اليها أو إعادة النظر بها. غير أنّ هذا المفهوم هو بحدّ ذاته خاطئ، لأنّه لا يأخذ بالاعتبار دور القوة الكامنة وراء تكوين هذه المزايا داخل مجتمع ما. إنّ أخذ دور القوة الاعتبار يؤدي حكماً الى فصل المبادئ الاخلاقية عن الايديولوجيا التي قد يقبل بها قسم من المجتمع، ولكنها في الحقيقة لا تخدم الّا مصالح المجموعة المهيمنة. من هذا المنطلق، لا يستطيع أي «نظام أخلاقي» مرتكز على مبدأ القوة أن يتلاءم مع أي تفسير ثقافي مشترك للأخلاق أو عابر للثقافات. ناهيك عن أنّ «حزب الله» وباعتراف قادته، هو حزب تابع لايران ولسياساتها في المنطقة. وقد تأكّد هذا الأمر مرةً جديدة خلال أحداث غزّة في حزيران الماضي بعدما اتّسم موقف قادة «حزب الله» بالفتور وابتعد عن الخطاب الذي اعتدنا عليه في كل مرّة كان الأمر يتعلّق بفلسطين. والأهمّ أنه لا يتلاءم مع الأسطورة التي روّجها الحزب عن نشأته، والتي أتت كردّة فعل على احتلال اسرائيل للبنان عام 1982. هل لأنّه أراد تجنّب تعكير جوّ المفاوضات التي كانت جارية حينها في فيينا بين ايران ومجموعة أربعة زائد واحد، مع العلم انّ إمكانية رفع العقوبات وعودة تدفق الاموال موجودة لدى ادارة بايدن؟ أو لأنّه كان يحاول تجنّب طرح النقاش حول أسلحته فيما لو استعملها لنصرة غزّة؟ القول بأنّ مواجهة إسرائيل لم تكن السبب الأساسي لنشأة الحزب أكّده الشيخ نعيم قاسم خلال مقابلة له على قناة الميادين في 16 آيار 2014، حين صرّح أنّ «التأسيس العقائدي» للحزب سبق «التأسيس العملي» الذي حصل سنة 1982.
بالفعل، منذ اواسط السبعينات، عمل نشطاء الثورة الايرانية الموجودين في لبنان على تأسيس «حزب الله»، اي عملياً قبل الاجتياح الاسرائيلي. وكانت مهمتهم تجنيد الشباب الشيعة وتلقينهم العقيدة الدينية وأفكار آية الله الخميني. ومن المعلوم أيضاً أنّ لبنان وكعادته شكّل ساحة للصراع الذي كان قائماً بين الثوّار الايرانيين المناهضين للشاه، أي حركة تحرير إيران القريبة من الإمام موسى الصدر، والفصائل الاخرى الموالية للإمام الخميني، والتي استلمت السلطة بعد نجاح الثورة وأصبحت جزءاً من حزب الجمهورية الإسلامية ومن أهم أركانها محمد صالح الحسيني أحد مؤسسي الحرس الثوري الايراني والذي لعب دوراً أساسياً في انشاء «حزب الله» في لبنان. لا بدّ من الإشارة الى أنّ هذه الصراعات التي شهدها لبنان بين الفصائل الايرانية المتصارعة أسّست لمشهد النزاعات التي عرفتها إيران بعد الثورة، الى أن استقّر نظام الخميني. المهمّ مما سبق هو حقيقة نشأة «حزب الله» التي تدحض الخطاب المعتمد في هذا الموضوع لأنّ لها وقعاً مباشراً على شرعية السلاح الذي للمفارقة أخذ بالازدياد بعد الانسحاب الاسرائيلي من لبنان عام 2000.
لقد أظهرت الوقائع انّ السلاح الذي يستمدّ شرعيته من شرعية المقاومة التي بدورها تستمدّ شرعيتها من محاربة اسرائيل، اقتصر دوره على تغيير وجه لبنان. لأنّه في الحقيقة هذا هو الهدف المنشود الذي أكّده أيضا الشيخ نعيم قاسم من خلال قوله «إنّ المقاومة ليست مجموعة مسلّحة تسعى الى تحرير قطعة أرض، وليست أداءً ظرفياً ينتهي مع اختفاء سبب وجوده، بل المقاومة هي رؤيا ومنهج وليست مجرد ردّة فعل». فبالنسبة للشيخ نعيم قاسم، وحده بناء مجتمع المقاومة يعزّز إستقلال وسيادة لبنان كما يراها الحزب. بالتالي، لم يعد السلاح محصوراً بمعادلة تحرير الأرض، بل تخطّاها الى المفاهيم اللامحدودة التي تؤكّد أزلية وجوده.