… «لا شيء». هكذا اختار لبنان الرسمي أن «يفعل» بإزاء «الزلزال» الذي أصاب علاقته بالمملكة العربية السعودية ودول الخليج العربي الأخرى والذي توّج «هزات تمهيديةً»، توالت منذ 2011 ووقعت على «فالق» حروب المنطقة التي اقتيدت «بلاد الأرز» إلى «فوهتها» على وقع مسارٍ «كاسِر للتوازنات» الداخلية بامتداداتها الخارجية كرّس خروج الوطن الصغير من عمقه العربي وعنه ورمْيه في الحضن الإيراني.
وفي أعقاب ساعاتٍ «رمادية» بقي خلالها الرهانُ على أن يتدارك لبنان الرسمي سوء التقدير الذي حَكَم مقاربته لـ «الخطيئة» التي شكلتها مواقف وزير الإعلام جورج قرداحي بحق السعودية والإمارات واتهامهما بـ «العدوان» على اليمن، لم تترك بيروت مجالاً، أمس، لأي غموض حيال أنها تُمْعِنُ في تعميق الحفرة التي وجدتْ نفسَها فيها بعدما قرّرت الرياض ودول الخليج أن تضع «النقطة على السطر» تعبيراً عن أن سياسة «ركل الزجاجة» التي كانت بيروت تعتمدها في ما خص مشكلة «حزب الله» انتهتْ صلاحيتها أقلّه لجهة تجديد «بوليصة التأمين» التي لطالما شكّلتها هذه الدول لـ «بلاد الأرز».
فمن إعلان قرداحي (لقناة «الجديد»)، أمس، أن استقالتَه من الحكومة «غير واردة»، إلى تبدُّد المناخات التي نقلت عن رئيس الوزراء نجيب ميقاتي «يستقيل وزير الإعلام أو أنا بفلّ»، بدا أن عصْف الأزمة الديبلوماسية التي بلغت حد استدعاء السعودية سفيرها من بيروت وطلبها مغادرة سفير لبنان ووقف كل الواردات منه، وهو ما أعقبه قيام الكويت والبحرين بخطوات مماثلة (ما عدا وقف الواردات) ثم سحب الإمارات ديبلوماسييها ومنع مواطنيها من السفر إلى «بلاد الأرز»، تتجه إلى فصول أكثر اشتداداً ومفتوحة على شتى الاحتمالات.
واستغربت أوساط واسعة الاطلاع إصرار لبنان الرسمي على «إدارة الظهر» للأبعاد العميقة لـ «نفاد صبر» دول الخليج من تحوّل بيروت «خطاً متقدماً» لمشروع التمدّد الإيراني في أكثر من ساحة ولاستهداف أمن السعودية عبر أدوار «حزب الله» في الملف اليمني خصوصاً، معتبرة أن «شرارة» الغضبة الخليجية لم تشكلها تصريحات قرداحي في ذاتها فقط، بل الأهمّ تمنُّع لبنان وميقاتي حتى عن إصدار إدانة مباشرة لهذه المواقف والاكتفاء باعتبار أنها تعبّر عن رأي شخصي أبداه وزير الإعلام قبل نحو شهر من ولادة الحكومة، واعتماد لغة «الأسف» حيال الخطوات السعودية وصولاً إلى اعتبارها تهدّد «التماسك العربي».
واستوقف هذه الأوساط أيضاً أن لبنان، الذي بدا معزولاً بالكامل في غمرة مأزقه ولم يتمّكن حتى من «رفْع السماعة» للتحدث مباشرة مع أي من العواصم المعنية بالإجراءات الزاجرة، عمد إلى ما يشبه «الخطأ المتعمّد» بمجاهرةٍ نافرة بإدخال واشنطن على خط أزمته مع دول الخليج عبر استدراج وساطةٍ، بدت أقرب إلى «الاستقواء»، تلاها إجراء وزير الخارجية عبدالله بو حبيب اتصاليْ شكر بنظيريه العُماني بدر بو السعيدي ثم القطري الشيخ محمد بن عبدالرحمن بن جاسم آل ثاني.
وإذ شكر بوحبيب لنظيره القطري «الجهود كافة المبذولة لاحتواء التصعيد والتخفيف من حدة الأزمة الراهنة»، مشدداً «على أهمية التواصل والتلاقي مع كل الأشقاء الخليجيين والعرب وحرص لبنان على أطيب العلاقات معهم بما يخدم مصلحة الجميع»، ثمّن خلال اتصاله بـ بو السعيدي «البيان الصادر عن الخارجية العُمانية بخصوص الأزمة الراهنة ومؤكداً على أهمية الحوار والتفاهم لتجاوزها وحرص لبنان الشديد على أفضل العلاقات الأخويّة مع أشقّائه العرب والخليجيين».
ودعت الأوساط نفسها إلى التوقف ملياً عند «الإشارة المَلكَية» التي شكّلها الاتصالان اللذان أجراهما خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز أمس بكل من سمو الأمير الشيخ نواف الأحمد وملك البحرين حمد بن عيسى آل خليفة شاكراً إياهما على الإجراءات التي اتخذها البلدان تجاه تصريح الوزير قرداحي، معتبرةً أن هذا التطور يعزز الاقتناع بأن المملكة العربية السعودية دشّنت صفحة جديدة من التعاطي مع الواقع اللبناني لم يعُد فيها مكان لتمييز بين الدولة وبين «حزب الله» بعدما عزّز الأداء الرسمي والوقائع السياسية امحاء الخط الفاصل على هذا الصعيد.
وبحسب الأوساط عيْنها، جاء تصريح وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان ليؤشر إلى أن إجراءات الرياض بحق لبنان ليست على طريقة «غضبة وتمرّ» بل هي من ضمن مسار يُرجح أن يكون غير قابل للعودة عنه قبل أن تلمس المملكة تبدُّلاً حقيقياً في الواقع اللبناني ووضعية تسليم الدولة بـ «التحكم والسيطرة» لـ «حزب الله» على كل مفاصل القرار فيها.
فالأمير فيصل بن فرحان، الذي أكد أن «لا رأي لنا إذا كانت حكومة لبنان تبقى أم لا»، أوضح انه «ليست هناك أزمة مع لبنان بل أزمة في لبنان بسبب هيمنة وكلاء إيران»، وأن لبنان بحاجة إلى إصلاح شامل يعيد له سيادته وقوته ومكانته في العالم العربي، مضيفاً: «هيمنة حزب الله على النظام السياسي تقلقنا وتجعل التعامل مع لبنان غير ذي جدوى (…) والسعودية ستدعم أي جهود نحو إصلاح شامل يعيد إلى لبنان مكانته في العالم العربي (…) والحوار مستمر مع الشركاء الدوليين في شأن لبنان».
وإذ حملت تغريدة السفير السعودي وليد بخاري غداة مغادرته بيروت، رفْضاً متجدداً لمحاولات لبنان الرسمي التستر وراء «الموقف الشخصي» لقرداحي لتبرير التلكؤ عن أي خطواتٍ تعكس استشعار فداحة ما ارتُكب ورغبة حقيقية في صون العلاقات مع السعودية ودول الخليج هو الذي كتب «(المُخْطِئُ لا يَرْتَكِبُ الخَطِيئةَ إِلاَّ بِإرادةٍ مُسْتَتِرَة)… قالَها جُبران فسمِعها العالَم!!! ذلك هو أديبُ الكلمةِ جبران خليل جبران»، فإن ما اعتُبر طياً في لبنان لصفحة استقالة أو إقالة قرداحي بدا إشارة بالغة السلبية تعكس استسهال بيروت ترْك هذه العاصفة تعتمل وتوغل في التأزم.
والأسوأ في رأي الأوساط المطلعة بروز رهان على منطقٍ لم يعُد قابلاً لـ«التسويق» ويقوم على مفاضلة يجري الترويج لها بين أزمة داخلية سيفجّرها دفْع قرداحي للاستقالة وما قد يليه من انسحاب الوزراء الشيعة من تطييرٍ للحكومة في غمرة الانهيار الكبير، وبين أزمة مع الخارج تُرك أمر معالجتها لاتصالاتٍ دولية مع الرياض انطلاقاً من أن ثمة رغبة خارجية في الحفاظ على حكومة ميقاتي.
وإذ تتجه الأنظار في هذا الإطار إلى لقاءات متوقعة لميقاتي اليوم وغداً في غلاسكو على هامش قمة المناخ، رأت هذه الأوساط أن محاولة الإيحاء بأن الأزمة المستجدة بين دول الخليج ولبنان هي «مشكلة الآخرين» ويحّلها الآخرون ستؤدي لمزيد من التفاعلات المتدحْرجة، مذكرة بأن باريس، التي جرى توسيطها مراراً مع الرياض لإنهاء حال «النأي بالنفس» عن الواقع اللبناني قبيل تشكيل الحكومة، لم تنجح في تبديل موقف المملكة الذي جاءت أحداث الأيام الأخيرة لتعزز مرتكزاته.
ولم يكن ينقص وفق الأوساط عيْنها إلا أن يتولى «حزب الله» وضْع الأزمة في سياق «حصار ومحاولة عزل للبنان لإخضاعه والسيطرة عليه واستهداف اللبنانيين»، معلناً بلسان النائب حسن فضل الله«لن نسمح لهم بإخضاع لبنان والسيطرة عليه، فهذه هي المعادلة، هم يريدون أن نخضع، ونحن نريد أن نتصدى (…) والحكومة والشعب وأصحاب الكرامة عليهم ألا يقبلوا بهذه الطريقة، ولا ننتظر مساعدات كي يبتزنا ويذلنا بها أحد»، مؤكداً «نقف إلى جانب الوزير قرداحي، لأنه لم يخطئ، ولكن للأسف توجد ضغوط قوية عليه، ويهولون بأن البلد سيخرب، ونحن برأينا بأن القضية ليست متعلقة بالاستقالة وليس لها علاقة بشخص، فهم سيكملون بمسارهم لإخضاع كل البلد. فكفى تهويلاً ولتكمل الحكومة عملها».
وفي موازاة ذلك، لاحت بوادر سجالاتٍ داخل الحكومة نفسها حول خلفيات الأزمة ومآلاتها، وسط علامات استفهام حول إذا كان إصرار لبنان الرسمي على «سياسة حافة الهاوية» في هذه الأزمة قد يؤدي إلى تصدعات داخل مجلس الوزراء نفسه.
فبعد تغريدة وزير «حزب الله» علي حمية (وزير الأشغال) قائلاً «السيادة الوطنية واستقلالية القرار وكرامة لبنان تسمو على كل اعتبار، فألف نعم ونعم للندية في العلاقات الدولية القائمة على الاحترام المتبادل، وألف لا ولا لإذلال وطن وشعب جُبِل على حرية الرأي، وألف نعم ونعم لشدِّ الأحزمة وعدم الخضوع للابتزاز، فما الحياة إلاَّ وقفة عز»، غرّد وزير الصحة الدكتور فراس الأبيض «صحيح الحياة وقفة عز، وهي أيضاً وقفة وفاء، وأقولها كلبناني أقام وعمل في المملكة لسنين، مع كامل التقدير لكل ما قدمته وتقدمه دول الخليج للبنان، من دعم وأعمار ومنح، وفرص عمل».
بدوره، ردّ وزير البيئة ناصر ياسين عبر حسابه على تويتر: «لا تُدار الأوطان بتغريدات (بطولية) وأوهام الانتصارات، بل بحكمة وتروي لمعالجة الكم الهائل من الأزمات، المزمن منها والمتجدد، وبحوار مع الأشقاء العرب لإعادة الثقة معهم، وبانفتاح على المجتمع الدولي».
وعلى وقع هذه التطورات الساخنة، وفي أول موقف له من الأزمة مع دول الخليج، أعلن البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي «أن الأزمة مع السعودية خصوصاً ودول الخليج العربي عموماً، متعددة الأسباب ومتراكمة، ومن شأنها أن تسيء إلى مصلحة لبنان واللبنانيين».
وقال: «لذلك نتطلع إلى أن يتخذ رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة وكل معني بالموضوع، خطوة حاسمة تنزع فتيل تفجير العلاقات اللبنانية الخليجية. وإذ ندعو إلى هذا الموقف الحاسم، فدفاعاً عن لبنان واللبنانيين المقيمين في الوطن وفي الخارج».
https://www.alraimedia.com/article/1561018/خارجيات/لبنان-الرسمي-يعمق-الأزمة-مع-دول-الخليج-ب-أخطاء-متعمدة