كتب طوني عيسى في “الجمهورية”:
“على اللبنانيين أن يخافوا جدّياً، هذه المرّة”. هذا ما يقوله ديبلوماسي عربي في بيروت. ويضيف: «قرداحي ليس سوى عنوان. والأزمة كانت ستنفجر بأي عنوان آخر. إنّها حربٌ حقيقية. وإذا لم يتحمّل اللبنانيون مسؤوليتهم سريعاً، فهذه الحرب يمكن أن تُحوِّل لبنان ركاماً بالمعنى الحرفي… وبعدها سيحتاج إلى سنوات عدة ليستعيد مقوماته ويبدأ مسار النهوض.
موقف قرداحي كان مُوَضَّباً في الأرشيف، كما الآلاف من مواقف «المواطنين العاديين»، التي لا تُلزم إلّا أصحابها. فقام «أحدهم» بالإضاءة عليه في شكل نافر، وحوَّله صاعقاً لقنبلة هائلة. فما هو الهدف؟
عملاً بالقاعدة المعتمدة في التحقيق: «فتِّش عن المستفيد». هناك فرضيات عدَّة. فالبعض لا يستبعد أن تكون اللعبة، في بدايتها، جزءاً من نزاع أقطاب الموارنة على موقع رئاسة الجهورية، وقد تطوَّرت أكثر من المتوقع. والبعض يعتقد أنّ هناك قوى في السلطة ربما تريد تحويل الأنظار عن ملفات داخلية محشورةٍ بها، فاختلقت مسألة أشدَّ خطورة. وآخرون يرون أنّ الأمر ربما يتعلق باستهداف الحكومة أو بفرض الخيارات عشية الاستحقاقات الانتخابية أو حتى تطييرها برمَّتها.
لكن المؤكّد هو أنّ اللعبة خرجت عن سياقها الداخلي وتحوَّلت حرباً لا هوادة فيها بين المملكة العربية السعودية وإيران، ساحتُها وأدواتُها لبنانية. وهي تتقاطع مع الحرب التي عادت تشهد فصولاً ساخنة بين الولايات المتحدة وإيران، بالجيل الجديد من العقوبات على قوى السلطة. وقد حمل قرار العقوبات الأخير إشاراتٍ إلى فصول أخرى لاحقة، ستكون أكثر حدَّة.
القريبون من «حزب الله» يقولون: عمق المشكلة هو أنّ السعوديين استطلعوا مسار الأحداث الأخيرة في لبنان، واستنتجوا أنّ حلفاءهم ليسوا عاجزين تماماً عن مواجهة «الحزب»، كما كان يُعتقد، من خلدة إلى شويا فعين الرمانة، وصولاً إلى المرفأ حيث مسار التحقيق الذي يثير هواجس «الحزب».
ويسرِّب هؤلاء أنّ السعوديين استعجلوا بإطلاق المواجهة تحت ضغط الوقت. فلبنان يقترب سريعاً من استحقاقات دستورية ستقود إلى إعادة تركيب السلطة وفق المعادلة القائمة حالياً ولسنوات مقبلة، سواء في الانتخابات النيابية والرئاسية أو في الحكومات المنتظرة، وهم يخشون نتائجها.
وفي تقدير هؤلاء، أنّ السعوديين يريدون إضعاف «حزب الله» في لبنان لاعتقادهم أنّ ذلك سيقود إلى إضعاف دوره الإقليمي، وخصوصا في الخاصرة السعودية، أي اليمن. وهم يريدون الاستفادة من لحظة التقاطع حول هذا الهدف مع الولايات المتحدة التي تريد من جهتها التصدّي لنفوذ إيران على شاطئ المتوسط، قبالة حلفائها في أوروبا الغربية وفي محاذاة إسرائيل.
المطّلعون على الموقف السعودي لا ينكرون كثيراً من جوانب هذا التوصيف. ويقولون: نعم. المملكة تشجّع اللبنانيين على أن يرفضوا سيطرة «حزب الله»، وأن يثبتوا أنّهم موجودون. وهي تعتقد أنّ هذا الأمر كافٍ وحده لوضع «الحزب» عند حدِّه. وطبعاً، هي لا تريد أن يذهب لبنان إلى حرب أهلية، لكنها مقتنعة أنّ «الحزب» يكرّس سيطرته باستخدام منطق التخويف من حرب أهلية.
ويعتقد هؤلاء أنّ «حزب الله» يريد من القوى القريبة من السعودية أن تشارك معه في السلطة من باب «الديكور»، لأنّ ذلك يوفّر استمرار الدعم العربي والمساعدات التي يحتاج إليها البلد. ولطالما وافق السعوديون وسائر المنظومة الخليجية على تمويل منظومة السلطة، ولو كان «حزب الله» يقودها. ودائماً كان «الحزب» يستثمر هذه المشاركة لتجميل صورته عربياً ودولياً.
وحتى العام 2018، بقي الخليجيون يساعدون لبنان ويفصلون بين هذا الدعم وعدائهم لإيران و»حزب الله». وبعد ذلك، فرملوا المساعدات، وأبقوا على مقاربة إيجابية مع الحكومة اللبنانية. ولكنهم دخلوا اليوم في مستوى أكثر سلبية في التعاطي مع لبنان، وسيخيّرونه «إما معنا وإما ضدّنا». فالتموضع الرمادي لم يعُد مقبولاً.
وثمة خوفٌ من انتقال السعوديين، والخليجيين إجمالاً، إلى المستوى السلبي في شكل مطلق، أي إلى القطيعة التامة مع لبنان ومؤسساته، وإلى مقاطعة الشعب اللبناني أيضاً. وهذا يقود إلى كارثة اقتصادية ومالية واجتماعية في لبنان، لا قيامة منها، وتعني قرابة نصف مليون لبناني يعتاشون من العمل في الخليج العربي، ومعهم عائلاتهم، وفي ظروف انهيار غير مسبوقة.
الخطِر في هذا الأمر أنّ الحكومة اللبنانية، وعلى رغم الغضب السعودي، لم تقدّم أي إشارة إلى التراجع خطوة إلى الوراء، ما يوحي أنّها ليست متحمسة لمراعاة السعوديين وتنفيس الاحتقان، وأنّها أقرب إلى إيران في المواجهة. وهذا يرشح الوضع لتعقيدات جديدة. وفي الترجمة، ليس موقف قرداحي هو الذي يستثير السعوديين، بل هو النقطة التي فاض بها الكوب.
ومن أسوأ علامات الأزمة، أنّ لبنان اضطر، للمرة الأولى، إلى طلب الوساطة الأميركية مع المملكة. وهذه الاستعانة بواشنطن تُقدِّم إشارتين سلبيتين: الأولى هي أنّ الدول العربية التي تضطلع عادة بدورٍ هنا، كمصر مثلاً، تركته «يقلّع شوكَه بيديه» مع السعوديين. والثانية هي أنّ الأميركيين أنفسهم يتشاركون مع السعوديين في رفض سيطرة «حزب الله» على لبنان ويفرضون عليه العقوبات، أي أنّ الأميركيين هم طرفٌ آخر في هذه المسألة، وليسوا في موقع الوسيط.
وعلى الأرجح، تعبّر الأزمة عن مأزق في المفاوضات الهادئة الجارية بين السعودية وإيران، كما عن مأزق المفاوضات الأميركية – الإيرانية المتوقفة. ويمكن فقط أن يشهد لبنان حلحلةً إذا طرأ انفراج في مسارات التفاوض.
وحتى ذلك الحين، الأزمة ستكون مصيرية للبنان. وانفجارها في هذا التوقيت يوحي بأنّ نزاع السيطرة قبل الانتخابات بلغ ذروته، لا على مستوى القوى المحلية فحسب، بل أيضاً على المستوى المحاور الإقليمية والدولية.
فالجميع يتعاطى مع العام 2022 باعتباره المفترق الحاسم لأخذ لبنان في هذا الاتجاه أو ذاك، ويلعب «صولد». وهذا ما يدفع القوى المعنية، وتحديداً إيران والمملكة العربية السعودية والولايات المتحدة إلى رفع مستوى المواجهة إلى الحدّ الأقصى. وبذلك، يمكن القول إنّ المعارك التي ستشهدها الانتخابات الآتية تُخاض بين القوى الخارجية أيضاً.
ولكن، يُخشى أن تكون الأزمة الحالية مدخلاً إلى حماوة غير محدودة في عملية شدّ العصب قبل الانتخابات. وهذا سيقود الوضع إلى تشققات طائفية ومذهبية. وليس صعباً حدوث ذلك في مناخات التوتر الأخيرة من خلدة إلى الطيونة. وبعد ذلك، لن يستطيع أحد فرملة الإنزلاقات، في الطريق السريع نحو الخراب.