كتب جورج شاهين في “الجمهورية”:
يُفترض عند مقاربة العقوبات الخليجية على لبنان العودة الى مسلسل الأحداث التي قادت الى هذه المرحلة المفصلية، فما نعيشه اليوم بات على قاب قوسين او أدنى من الانفراج او الإنفجار. فكل الخلافات الاقليمية والدولية لم تجد ساحة رخوة لتفجيرها سوى الساحة اللبنانية. وبين ما يعدّ أسباباً داخلية أو خارجية لما حصل، «صُلِب» لبنان على خط النار وحبل المشنقة بين «مأرب» و «الطيونة». كيف ولماذا؟
قلائل هم من قدّروا حجم الإجراءات السعودية والخليجية المتسارعة ونوعيتها التي تلت بَث تصريح وزير الاعلام جورج قرداحي وما حمله من توصيف للحرب في اليمن، على رغم الاقتناع شبه الشامل انه كان يمكن ان تمر ملاحظاته من دون ان يسمع بها أحد او يتوقف عند مضمونها فيعطيها ما تستحقه من اهمية في ظل حجم المواقف المعلنة مما يجري هناك منذ سنوات عدة. ولذلك، كان على المراقبين التوقف عند التوقيت الذي اختير لبث هذه المقابلة ونشرها لتحويلها «صاعق تفجير» لأزمة غير مسبوقة. فقد تلت احداث ومواقف تعتبر اكثر واشد خطورة ولم تتسبّب بما جاءت به من تطورات دراماتيكية وضعت لبنان في مواجهة، ليس مع الرياض واليمن فحسب، انما مع دول مجلس التعاون الخليجي.
وعليه، يدرك العارفون انه لولا التدخل الفرنسي والاميركي منذ اللحظة الاولى، لانضَمّ سُنّة العالم الإسلامي كافة الى برامج العقوبات والمقاطعة الديبلوماسية والاقتصادية والمالية مع لبنان. ففي الكواليس السياسية التي شهدت اولى محاولات تطويق ما حصل – بعد استخفاف مريب عَبّر عنه بعض أهل السلطة ـ وصلت معلومات مُقلقة عن توجّه مصري للانضمام الى مجموعة دول مجلس التعاون الخليجي في مرحلة تلت صدور العقوبات عن مجموعة من دول مجلس التعاون، فتراجع البعض عن تدابير مالية ونقدية وتجارية متشددة.
وبعد الإعلان بفارق ساعات محدودة عن سحب السفراء الخليجيين من لبنان وطرد السفراء اللبنانيين من دول الخليج، كما جرى في البحرين والكويت بعد السعودية واليمن، تمايَزت عواصم اخرى في التعاطي مع بيروت. فدولة الإمارات العربية المتحدة اكتفت بسحب ديبلوماسييها من بيروت بسبب عدم وجود سفير لها فيها، ولم تمس بسفير لبنان لديها ونصحت رعاياها بعدم السفر الى لبنان. والدوحة التي لم تساير جاراتها من مجموعة الدول الخليجية الاخرى، ومنها تلك التي أخضعتها لعقوبات قاسية وحصار مطبق لسنتين تقريباً، توقفت بإجراءاتها عند حدود إدانة تصريحات قرداحي ولم تستدع سفيرها ولم تطرد السفير اللبناني لديها. فيما حافظت سلطنة عمان على «حيادها الإيجابي» مما يجري على الساحتين الخليجية والعربية، فاكتفَت، بعد التعبير عن «أسفها العميق لتأزّم العلاقات بين عدد من الدول العربية والجمهورية اللبنانية»، بالدعوة الى «ضبط النفس والعمل على تجنب التصعيد ومعالجة الخلافات عبر الحوار والتفاهم بما يحفظ للدول وشعوبها الشقيقة مصالحها العليا في الأمن والاستقرار والتعاون القائم على الاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشؤون الداخلية».
واستناداً الى هذه المعطيات التي لا يرقى إليها اي شك حتى اليوم، فإن الاوساط الديبلوماسية تعج بالقراءات المختلفة بحثاً عن اسباب ما يجري، تمهيداً لاستكشاف ما يمكن ان تؤدي اليه في حال لم تتوافر المخارج التي تلجم ردات الفعل التي تعبّر عن حجم الغضب الخليجي. وان التقت على أنها من باب «القضية مش قصة رمانة انما هي قلوب مليانة»، فإنه باتَ من الواجب معالجة الأزمات التي جعلت العلاقة بين لبنان وهذه الدول «رَجراجة» تهتزّ من وقت لآخر، وهي ازمات لم تكن جديدة بعدما تعددت محطاتها في أوقات سابقة، ولفترات متقطعة وطويلة المدى. وهي تلاحقت فصولها بعدما ارتبطت بمعظمها في السنوات الماضية بحرب اليمن وأحداث البحرين والمنطقة الشرقية في السعودية، وبعد الكشف عن «خلية العبدلي» في الكويت وشبيهات لها في الإمارات العربية المتحدة وقطر، والتي ترتبط بمجملها بدورٍ لـ»حزب الله» وما يقوم به خارج الحدود اللبنانية. وقد ظهر واضحا أنها تجاوزت تصريح قرداحي الى ما هو ابعد.
فهذه الدول، وفي مقدمها السعودية، لا تنظر الى «حزب الله» على انه حزب لبناني او «قوة لبنانية مقاومة»، وهو في نظرها احد «أذرعة إيران» في لبنان والمنطقة، بمعزل عن مفاوضاتها القائمة مع طهران من أجل ترتيب العلاقات بينهما. وهي نظرة استخدمتها المملكة لمحاسبة المسؤولين اللبنانيين الذين يغضّون النظر عن هذا التوصيف للحزب بدءاً بالرئيس سعد الحريري وصولاً الى الرئيس نجيب ميقاتي، وربما احتفظت بالنظرة عينها الى بقية المسؤولين. وهي تضع رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل في خانة الحزب وطهران، الأمر الذي عَقّد الامور اكثر بحيث امتنع السفير السعودي عن زياراته لبعبدا ما عدا «الإلزامية» منها، والتي تفرضها العلاقات الديبلوماسية والبروتوكولية والمناسبات التي لا يمكن تجاهلها.
وعليه، بقي امام المراقبين الباحثين عن مخارج للازمة التي تطورت بسرعة فائقة انتظار ما يمكن ان تنتهي اليه المبادرات الخارجية الفرنسية والاميركية ونتائج اتصالات ميقاتي في «مؤتمر غلاسكو» للمناخ في اسكتلندا، والتي توسعت لتشمل عددا كبيرا من القادة الكبار ووزراء الخارجية المشاركين في المؤتمر. ولذلك، انتهت مهمة «خلية الازمة» التي شكلت في بيروت واعتبرت أنها كلّفت مهمة لم تتجاوز يوما واحدا، بعدما أعطت تصريحات وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان الابعاد الحقيقية للازمة. فهو وضعَها، بعد ان تجاوز تصريح وزير الاعلام، في مَصاف الازمات الدولية والاقليمية، التي تؤثر وتتأثر بسير المفاوضات الجارية بين الرياض وطهران واحداث اليمن والتطورات الدراماتيكية في مأرب ومحيطها من جهة وما بين طهران ومجموعة الدول الـ (5+1) حول ملفها النووي، متّهماً الحزب بوضع اليد على لبنان بالتواطؤ مع عدد كبير من المسؤولين، سواء عن رضى او عن عجز وادارة شؤون الدولة وسياستها الخارجية، توصّلاً الى اتهامه بالادوار الشريرة في ما يجري في اليمن وبعض دول مجلس التعاون الخليجي.
وأمام ما فرضَته مواقف بن فرحان من وقائع جديدة، ظهر واضحا ان القضية التي أشعلها كلام قرداحي باتت في مكان آخر، وأن ما قام به اللبنانيون حتى اليوم لم يقدّم أو يؤخر في طرق المعالجة. وما بات ثابتاً باعتراف اكبر المسؤولين انّ استقالة قرداحي لم تعد ذات اهمية ومعها استقالة الحكومة. والمطلوب يكمُن في إجراء مراجعة جذرية لسياسات لبنان الخارجية تجاه الأزمات الخليجية، لانه بات من الصعب تلبية اي مطلب سعودي ممّا سبقت الاشارة اليه.
وان تم ربط تلك المحطات بما شهدته «واقعة الطيونة» بما لها من انعكاسات داخلية وخارجية لمجرد دور «حزب الله» فيها من المحطات التي عَجّلت في تفجير الوضع في لبنان، الى درجة اعتبر فيها المطلعون على الازمة من زوايا اقليمية ودولية بالغة الدقة انّ لبنان بات على «حبل المشنقة» المنصوب على خط النار الممتد من «الطيونة» الى «مأرب». ومن يَعش ير؟!