بلغت الأزمةُ بين لبنان ودول الخليج العربي مرحلةً مفصليةً، فإما تنبري السلطاتُ في بيروت إلى سحْب فتيل الانفجار الديبلوماسي الكامل عبر إجراءٍ زاجرٍ بحقّ وزير الإعلام جورج قرداحي، على شكل إقالة أو استقالةٍ يُدفع إليها بما يجمّد مساراً متدحرجاً من تدابير خليجية عقابية، وإما تتمادى في «المخاطرة الكبرى» بـ «دفن الرأس في الرمل» والانسياق وراء التعاطي مع «خطيئة قرداحي» على أنها في سياق مواجهة إيرانية مع المملكة العربية السعودية خصوصاً وتالياً فتْح الواقع اللبناني على عصْفٍ يكرّس عزلةَ «بلاد الأرز» ويجعلها تقترب من سيناريو «غزة».
وفيما كان رئيس الحكومة نجيب ميقاتي يستكمل لقاءاته على هامش قمة غلاسكو، حيث كان «سلام» مع الرئيس الأميركي جو بايدن بعد «كلام» مع وزير خارجيته انتوني بلينكن ومسؤولين دوليين آخرين من ضمن محاولاتِ «استنجادٍ» بعواصم عربية وغربية لانتشال لبنان الرسمي من الورطة التي وجد نفسه فيها بعدما تأخَّر في القيام بفعلٍ يتناسب مع الأبعاد العميقة التي عبرّت عنها «غضبة» دول الخليج، فإن مصادر واسعة الإطلاع حذّرتْ من ارتداداتِ مجاراة بيروت، من حيث تدري أو لا تدري، تصوير «نفاد صبر» الرياض ومجلس التعاون الخليجي على أنه يرتبط بحساباتٍ ومقايضاتٍ تتصل بالملف اليمني وفق ما يصوّر «حزب الله».
ورأت المصادر، أنه بعدما وضعت السعودية حداً لمرحلة الفصل بين «حزب الله» ووضعيّته كذراع متقدمة لإيران وبين الدولة اللبنانية وهو ما عكسه بلا لُبْس تظهيرها إبعاد السفير اللبناني لديها واستدعاء سفيرها في بيروت ووقف الواردات من «بلاد الأرز» على أنه بداية مرحلة «وقف التعاطي» مع لبنان كونه «غير ذي جدوى في ظل هيمنة حزب الله»، معتبرة إساءات قرداحي تعبيراً عن هذا الواقع، لاحت بوادر محاولة الحزب – والتي انجرف إليها ميقاتي – لتحويل إصرار واشنطن وباريس على استمرار الحكومة تفادياً للفوضى وحرصاً على إجراء الانتخابات النيابية في مواعيدها إلى «فرصة» للاستقواء بالمجتمع الدولي على السعودية والسعي لنقل الأزمة من كونها بين لبنان ودول الخليج لتكون مشكلة بين الرياض وواشنطن.
ولاحظت هذه المصادر أن «حزب الله» الذي كان عبّر مراراً عن وجود رهان خارجي على الانتخابات لتغيير موازين القوى في لبنان، بات يستخدم هذه الورقة لدفْع بيروت إلى الضغط بها لاستدراج «تطبيع» خارجي ولو ضمني مع وضعيّته، عبر تكريس «الأوعية المتصلة» بين أي ردّ فعل خليجي على أدواره التي صُنفت «عدوانية» تجاه السعودية من خلال دعمه اعتداءات الحوثيين على المملكة، وبين «خراب لبنان» ونسْف أي محاولة لوقف الانهيار الكبير على متن برنامج إنقاذ مع صندوق النقد الدولي.
ومن هنا، يجري رصْد كيف سيتصرف لبنان الرسمي في الساعات المقبلة وتحديداً بعد عودة ميقاتي الى بيروت التي سبقتْها دعوة البحرين، جميع مواطنيها الموجودين في لبنان إلى ضرورة المغادرة «فوراً نظراً لتوتر الأوضاع هناك مما يوجب أخذ الحيطة والحذر»، وسط انطباعٍ بأن رئيس الحكومة الذي أساء التعاطي مع هذا الملف منذ أن اشتعلت شرارته بات أمام مفاضلة صعبة بين أمرين:
• الأول، التسليم بالخط الأحمر الذي رسمه «حزب الله» حول استقالة قرداحي أو إقالته، والذي يترافق مع تَعَمُّد «غرز السكين في الجرح» عبر الإمعان في إساءات تَراكُمية مثل اللافتة المسيئة ضد دول الخليج التي رُفعت على طريق المطار وأوعز وزير الداخلية بسام المولوي أمس بإزالتها، وأيضاً بمواقف كالتي أطلقها وزير الثقافة محمد المرتضى (محسوب على الثنائي الشيعي حزب الله – أمل) الذي اعتبر «أن إقالة وزير أو استقالته لن يغيّرا في الأمر شيئاً، وثمة شبهة قائمة بقوة تشي بأن المطلوب هو«استفحال أزمة» وليس «حلها»؛ ما يدفع إلى التساؤل: لماذا التلويح أحياناً بأنه يجري راهناً تدارُس أمر إقالة وزير الإعلام أو استقالة رئيس الحكومة أو استقالة بعض الوزراء؟ أليس واضحاً أن كل هذه المواقف لن تجدي نفعاً وأن الأزمة الأخيرة المفتعلة لن تتلاشى إلا متى أدرك مفتعلوها أنها في غير محلها»؟
ومن شأن إبقاء ميقاتي «باب الريح» مفتوحاً على مصراعيه أي محاولة «التعايش» مع الأزمة والرهان على أن «تتبدّد مع الوقت»، أن يجعل حكومته «مكشوفةً» خليجياً وعربياً وتالياً من دون أي «رافعةٍ» لا بدّ منها لأي مسار إنقاذٍ مالي، وفي الوقت نفسه ترْك هذه العاصفة تتدحْرج لمستويات غير مسبوقة من القطيعة الكاملة والقاصمة لأي إمكانات معالجة للأزمة وهو المسار الذي لا قدرة للبنان الذي تتكاتف عليه الكوارث على تَحمُّل تشظياته.
• والثاني، الضغط نحو إقالة أو استقالة قرداحي، فتكون بالحد الأدنى إشارة إلى جدية لبنان في احتواء الزلزال الديبلوماسي وإلى إدراكه وطأة التسليم بالتحكم والسيطرة كامليْن لـ «حزب الله» على قراره، وهو ما سيساعد الوسطاء الخليجيين والدوليين على محاولة فرْملة الخطوات نحو مقاطعة شاملة ستعني بأي حال أن حكومة ميقاتي ستصبح «فاقدة للشرعية» العربية وفي عزلة مطبقة، وسط ملاحظة الأوساط أن التسريبات عن «المطالبة بضمانات مسبقة بأن يكون خروج وزير الإعلام من الحكومة كافياً لإنهاء الأزمة، لا تساعد في تبريد المناخات بل تعكس أن ثمة مَن يعتبر أن ما يجري ليس مشكلة للبنان بل للآخرين».
وعلى وقع هذه الأبعاد البالغة التعقيد، التقى ميقاتي أمس في غلاسكو، وزير الخارجية الأميركي الذي جدد «دعم استمرار جهود الحكومة في اعادة الاستقرار وتحقيق التعافي الاقتصادي والمفاوضات الجارية مع صندوق النقد الدولي وصولاً الى تنظيم الانتخابات النيابية»، مشدداً على «مواصلة دعم الجيش والقطاعات التربوية والصحية والبيئية»، وناقلاً «الأهمية والعاطفة الخاصة التي يكنّها الرئيس بايدن للبنان ولاستقراره وتعافيه، تمهيداً لنهوضه من جديد».
بدوره،عرض ميقاتي مقاربة الحكومة لتحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي في لبنان رغم الظروف الصعبة على الصعد كافة، كما عرض التحضيرات الحثيثة لاطلاق الخطة الاقتصادية وبدء التواصل مع صندوق النقد الدولي، طالبا «دعم الولايات المتحدة لهذه المسار».
وكرر ما كان أبلغه أول من أمس الى الرئيس الأميركي من شكر وتقدير لتعيين اللبنانية الأصل ابنة مدينة طرابلس سارة منقارة مستشارة رئاسية خاصة لحقوق ذوي الاحتياجات الخاصة.
وفي موازاة ذلك، وفيما التقى رئيس الحكومة أيضاً الأمين العام للأمم المتحدة انطونيو غوتيريس ورئيس وزراء كندا جاستين ترودو، فإن تقارير (موقع «النهار») أشارت إلى أن «الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون وعد ميقاتي خلال اجتماعهما أول من أمس، بالقيام باتصالات مع قادة دول الخليج من أجل تليين موقفهم تجاه لبنان»، وهو ما قابلتْه أوساط متابعة بالإضاءة على أن سيد الاليزيه الذي يُعتبر «عرّاب» حكومة ميقاتي التي وُلدت بتقاطع مع إيران لم تقطع حبْله واشنطن يحاول منذ أشهر استدراج الرياض لتغطية الواقع اللبناني الراهن بموازينه الحالية من باب تقديم دعم مالي لبيروت وهو ما لم ينجح فيه، في حين أتت الأزمة الحالية وتعاطي لبنان الرسمي معها ليؤكدا المؤكد لدول الخليج حيال أن «بلاد الأرز» صارت في… مكان آخر.
وكان قرداحي قال في تصريح صحافي «لست متمسكاً لا بمنصب ولا بوظيفة، لكن المسألة تعدّت ذلك الى الكرامات. كل الموضوع قيد الدرس وانا بانتظار عودة الرئيس ميقاتي من قمة غلاسكو لوضع جميع الاوراق على الطاولة والخروج بعدها بقرار متفق عليه بيني وبينه، في ضوء المعطيات التي قد تكون تكونت لديه».
https://www.alraimedia.com/article/1561305/خارجيات/لبنان-في-قلب-المخاطرة-الكبرى-بعلاقاته-مع-الخليج