كتب أحمد الأيوبي في “اللواء”:
جدّد الأمين العام لـ«حزب الله» حسن نصرالله إعلان نفسه حامي المسيحيين في سوريا ولبنان، مضيفاً على عناصر الصراع معادلة الحماية مقابل التسليم بتحكّمه بالساحة المسيحية، على المستوى السياسي والأمني والاستراتيجي، ومهدِّداً بمائة ألف مقاتل «لو أشير لهم أن يحملوا على الجبال لأزالوها»، لكنّه بموقفه هذا أعاد فتح النقاش حول واقع المسيحيين في ظلّ «حماية» منظومة الممانعة ودورهم الذي يفترض أن يكون شراكة وطنية كاملة، بينما وصل بلد الأرز إلى الجحيم بفضل شراكة «حزب الله» والتيار الوطني الحر، حامل شعار «حقوق المسيحيين».
أثار نصرالله في مقارباته الأخيرة مسألة العلاقة مع المسيحيين وكيف أنّ حزبه «حافظ» عليهم مقدماً مثالين: الأوّل هو «الحفاظ» على المسيحيين في القرى السورية من الجماعات الإرهابية، والدفاع عن القرى المسيحية في البقاع أيضاً، والمثال الثاني «عدم دخول الحزب إلى قضاء جزين بعد العام 2000، مع التشديد على «بقاء المسيحيين يومها في قراهم معززين ومكرمين، وفي حين أننا سلمنا العملاء للقضاء اللبناني، ولم نعمل محاكم ميدانية بحق العملاء، بالرغم من أنهم قتلونا وسجنوا أولادنا».
في تفنيد هذا الخطاب تجدر الإشارة إلى أنّ قوى الممانعة تتحرّك على قاعدة إبقاء المسيحيين وبقية «الأقليات» كحالة «متحفيّة»، أي للتدليل على أنّهم موجودون بحماية هذه المنظومة، لكنّهم ليسوا سوى «دليل» دعائيّ على البقاء في ظلّ النظام السوري أو في بعض مناطق العراق وفي لبنان، من دون أن تكون لهم حقوق سياسية ومشاركة فعلية في الحياة العامة. المسيحيون، أيضاً، في عالم الممانعة أشبه بـ«المخلوقات النادرة» التي يحافظ عليها للعرض عند اللزوم، ولتأمين دعاية إقليمية ودولية تقول للعالم كم هي متسامحةٌ إيرانُ وحلفاؤها مع «الأقليّات»، حتى أنّها حاكت حلفاً لها لمحاربة «الإرهاب السني» ولتقديم نفسها «حامية الأقليات» كما سارع نصرالله إلى تقديم حزبه، وإلى تظهير «أفضاله» على المسيحيين.
فضلاً عن حرمان المسيحيين من حقوقهم السياسية في منظومة الممانعة، فإنّ حالة المتاجرة بهم لا تقتصر على السياسة والمشهد العام، بل إنّ التفاصيل تزخر بالصفقات المالية المربحة، كما كان الحال مع راهبات معلولا، اللواتي شكّلن عمود الدعاية لهذا المعسكر على مدى سنوات، حيث سادت هذه الصفقات في الكثير من الحالات المشابهة، ولم تكن مجرّد عمليات خيرية وإنسانية، كما حاول البعض تصويرها.
لم تغب لغة التهويل بالإرهاب عن خطاب نصرالله، مما يدفع معارضيه إلى استحضار الانغماس الإيراني في رعاية المنظمات المتطرفة، من القاعدة واستضافة قيادتها في طهران، وليس انتهاءً بداعش ورفدها بالقيادات من السجون العراقية والسورية، وما بينهما تجربة تنظيم «فتح الإسلام» الإرهابي، الخارج من سجون نظام الأسد والذي وضع نصرالله له «الخط الأحمر» في وجه الجيش اللبناني.
أمّا حديث نصرالله عن «التسامح» مع حالات التعامل مع العدو الإسرائيلي في الجنوب بعد العام 2000 وعدم دخول قضاء جزين، فإنّ لذلك سببين وجيهين لا يرغب نصرالله في التطرّق إليهما:
الأول: أنّ الأعداد الكبيرة من العملاء لم تكن فقط من المسيحيين، بل كان العدد الأكبر من الشيعة، الذين شكّلوا ما كان يسمى «جيش لبنان الجنوبي» وهم الذين استقبلوا جيش الاحتلال بنثر الورود والأرز، وبالتالي لم يكن من مصلحة «حزب الله» فتح هذا الباب للاقتصاص من العملاء، ليس «حرصاً» على المسيحيين، بل تجنّباً لإحداث شروخ لا تلتئم في الصفّ الشيعي، وهذا ما حوّل محاكمة العملاء إلى عملية صورية لا أكثر.
تطوّرت هذه المقاربة بعد توقيع تفاهم مار مخايل، وأصبح موضوع «التسامح» مع العملاء، جزءاً من سلوك «حزب الله» مراعاةً لحليفة المسيحي، الذي يصدف أنّ أحد المقرّبين منه هو العميل العميد المتقاعد فايز كرم، وإصدار العفو الخاص عن عملاء آخرين مقربين من كرم، ولا يمكن نسيان الإطلاق الدرامي لسراح العميل عامر الفاخوري، وهنا تتداخل المصالح السياسية لتقدّم مشهداً لا علاقة له بالحفاظ على المسيحيين، بقدر ما هو صفقة سياسية للحفاظ على الغطاء المسيحي لـ«حزب الله».
السبب الثاني: هو أنّ دخول قضاء جزين بالقوة العسكرية، كان سيُحدث ردّات فعل تلقائية، وكان سيُحدث صداماً لا يمكن تجاوزه، وهذا ما لم يتعلم الحزب منه عندما دفع جحافله نحو عين الرمانة، فاقتحام المناطق المسيحية له خطوط محلية وإقليمية ودولية لا تسهل إزالتها.
مقاربة أخرى قدّمها نصرالله عن «التسامح» وهي قوله: «لم نحاكم أحداً حتى من قتلنا لم نحاكمه، ولم نقتله، ولم نقم محاكم ميدانية. الكل يعرف أنّه بعد انتصار المقاومة الفرنسية أقامت محاكم ميدانية وأعدمت 10000 عميل فرنسي لقوات الاحتلال الألماني.. نحن لم نحاكم أحداً، ولم نعدم أحداً، ولم نصادر مال أحد»، لكنّ ما أغفله نصرالله هو أنّ المقاومة الفرنسية لم تسيطر بسلاحها على الدولة بعد انتصارها، ولم نسمع عن حزب فرنسي هيمن على الحياة السياسية والأمنية وبقي لعقود يمننّ الفرنسيين لأنّه انتصر على النازية. فالمقاومة الفرنسية تلاشت وسلّمت القياد للدولة وانتهت كلّ أشكال التنظيمات المسلحة على الأراضي الفرنسية.
في العلاقة السياسية مع المسيحيين، يريد «حزب الله» هذه الطائفة من اللبنانيين خاضعة خانعة مستسلمة، كما هو حال التيار الوطني الحر، وحال مؤسّسه الرئيس ميشال عون، ورئيسه النائب جبران باسيل، اللذين قدّما للحزب مؤسسات الدولة الدستورية والإدارية والأمنية على طبق من سُلطة، فكانت معادلة حماية السلاح مقابل رعاية الفساد.
هكذا يقبل «حزب الله» بالمسيحيين في لبنان، تماماً كما هم في سوريا، لا طعم لهم ولا رائحة ولا لون، موجودون لكنّهم مكتومو القيد الوطني، لا يظهرون إلاّ للتسبيح بحمد النظام، ولا يتحرّكون إلاّ لتبجيل «الحامي» الممانع!