كتب السفير د. هشام حمدان في “نداء الوطن”:
يعوّل الرئيس نجيب ميقاتي كثيراً على دعم الرئيس الفرنسي ماكرون له، لكي يعيد تعويم حكومته والحفاظ على استمرارها. قادة الغرب بشكل عام، بما في ذلك الرئيس ماكرون الذي كان القوة الفاعلة في دفع تشكيل الحكومة، يهمّهم أيضاً أن تستمرّ الحكومة. ربما يعتقد رئيس فرنسا أنّها فرصة ثمينة له لإبراز العضلات مجدّداً على الساحة الشرق أوسطيّة، بعدما خطف موقف دول الخليج كلّ الثّمار التي كان قد جناها حتى الآن من جهوده لتأليف حكومة في لبنان. لكنّني أثق بأنّه يحسب هذا الأمر بدقة. فالموقف الخليجي بلغ سقفاً عالياً جداً، ولن يمكنه هذه المرّة أن “يمون” عليهم، بل ربما عليه أن يستمع إليهم.
لا شكّ أن عوامل القوّة السابقة التي تمتع بها الرئيس ماكرون عند تأليف الحكومة ما زالت مستمرّة. فمن جهة، هو أقرب دولة غربية الى قلوب القائمين على السلطة في إيران، ويحظى من جهة أخرى بتغطية أوروبية وأميركية وروسية وكنَسيّة كبيرة، ولديه أيضاً “حلفاء” بين القوى اللبنانية المعتبرة قريبة من الخليج، وخاصة بين القوى المسيحية، إضافة إلى السيد وليد جنبلاط.
فبالنسبة الى إيران، فإنّ الرئيس ماكرون لم يستوعب حجم دورها السلبي في لبنان فحسب، بل يمنع أيّ إجراءات دولية ضدّ حزبها فيه، بما في ذلك بالنسبة إلى تحويل قضية تفجير المرفأ قضية حقوقية دولية. إيران تدرك أنّ الرئيس ماكرون يخشى أن يؤدّي أي تحرّك ضاغط ضد الحزب الى تفجيرات أمنية تهدّد بتدفّق ألوف اللاجئين نحو أوروبا، وتُفسح أمام بؤر لحركات إرهابية داعشية الملبس بالقيام بأعمال إرهابية في البلدان الأوروبية. ويُشاع أنّ إيران تقدّم خدمات أخرى له أيضاً تساهم في حملته الرئاسية في الإنتخابات الفرنسية القادمة.
ولا شكّ أنّ الرئيس الفرنسي الذي ينعم بقبول القوى العظمى لدور بلاده المحوري في لبنان، يستفيد من رسوخ مثل هذا التخوّف أيضاً في الإدارات الأميركية والأوروبية وخاصة في بريطانيا. وقد استمعتُ الى مسؤوليَن عسكريّين، أميركي وبريطاني، يقولان في إحدى المناسبات الديبلوماسية في بيروت، إنّ لبنان هو خطّ الدفاع الأول لهم ضدّ الإرهاب، كما أنّ الولايات المتّحدة وبريطانيا تجدان هذه الفرصة مؤاتية للتخفيف من الغضب الفرنسي إزاء صفقة الغواصات مع أستراليا التي “خطفتاها” منها، وتبلغ قيمتها عدّة مليارات من الدولارات.
وبالطبع فإن إسرائيل ليست متضايقة أبداً من الدّور الفرنسي. ففرنسا التي تحظى بقبول ضمني لبنانيّ ودوليّ بالنسبة لأولوية شركاتها في إستخراج الغاز والنفط في لبنان، لا تتدخّل سلباً في موضوع الدور الأميركي وكذلك الروسي، في ترسيم الحدود البحرية للبنان، سواء جنوباً أو شمالاً. كما أنّها لا تحيد عن جعل التفوّق العسكري الإسرائيلي، وأمن إسرائيل فوق أي اعتبار. إيران وحزبها، يدركان ذلك و”يحترمان” موقفها بهذا الصدد.
ولا شك أن الكنيسة الكاثوليكية في العالم مرتاحة إلى استمرار الدور الفرنسي حاضناً للبنان. ولعل هذا الأمر هو الذي يترك مفاعيله على مواقف غبطة البطريرك التي ما زالت تميل نحو إجراءات لها طابع التسوية، بدلاً من الدّفع إلى التصعيد في مواقفه المعلنة.
وتعلم فرنسا أن الحصان الأقوى في الساحة السنية قد خسر الشّوط. فالحريري الذي نزع عنه الغطاء الخليجي، وارتدى بدلاً عنه الغطاء الفرنسي، يبدو عازفاً عن الترشّح للإنتخابات القادمة، ويرغب في الخروج من اللعبة السياسية في لبنان بعد استنزافه واستهلاكه. السنّة في لبنان يميلون تاريخياً، طائفياً ووطنياً، نحو الخليج، وأيّ معركة فرنسية بمواجهة الخليج ستكون بأحصنة ضعيفة مثل الميقاتي الذي يُعتبر رمزاً أساسياً من رموز الفساد في البلاد، ولا يستطيع الوصول إلى الندوة البرلمانية من دون دفع ملايين الدولارات من الرشاوى إلى الفقراء في الشمال.
وتأمل فرنسا أن يظلّ جنبلاط وفياً لها فلا يدعو وزيره في الحكومة الى الإستقالة. لكنّ فرنسا تتابع مواقفه الأخيرة المعلنة، وتعلم أنّه يتردّد كثيراً باتخاذ أي موقف يمكن أن يغضب دول الخليج، وخاصة السعودية. نموذج الحريري ماثل أمامه وأمام غيره. موقفه بالنأي عن موضوع دور حزب إيران وسلاحه في لبنان إستهلك كثيراً من رصيده، ويعلم أنّ معركته الإنتخابية القادمة ستكون صعبة للغاية، حتى ولو تحالف مع خصميه الدرزيّين اللدودين، ومع التيار البرتقالي، خاصة إذا أمكن جمع كل جهات المعارضة تحت عنوان: “جبهة سيادية في مواجهة محور إيران”.
قد لا يكون لبنان ومسؤولوه ذوي أهمية في الحسابات الفرنسية، لكنّ الموقف الخليجي الذي فاجأ اللبنانيين وأصدقاءها في الدول الغربية، لا يمكن احتواؤه بفعل الصداقة فقط. هي لم تخفِ ردود فعل منزعجة منه، فمكانة دول الخليج لدى تلك الدول، لا تتساوى مع مكانة إسرائيل لإعلان تأييد فوري لتلك المواقف. لكن رغم هذا الإنزعاج، فإن تعاطيها مع هذا التصعيد السعودي والخليجي يفرض الحذر، لأنّه بات يلامس كراماتها الوطنية وكامل دورها الشرق أوسطي.
المطلوب لبنانياً وخاصة من السياديين، أن يقتنصوا هذه الفرصة أيضاً، ويلاقوا أهل الخليج، فيطالبوا فرنسا والغرب بدعم مطالب البطريرك الراعي، والدعوة إلى مؤتمر دولي برعاية الأمم المتّحدة، لتبنّي حلّ شامل للواقع اللبناني، يستند إلى قرارات مجلس الأمن. إنّ أي تردّد في الجبهة السيادية، سيودي بها إلى المصير ذاته الذي وصلت إليه ثورة 17 تشرين.