كتب نبيل هيثم في “الجمهورية”:
ما من شك أنّ تصريحات وزير الإعلام جورج قرداحي قد أغضبت السعوديين، لكنّها ليست السبب الجوهري الذي دفع بالسعودية الى إعلان القطيعة الديبلوماسية مع لبنان.
يتأكّد ذلك من أنّ المملكة نفسها لم تتأخّر في تحديد السبب؛ فما قاله وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان آل سعود كان شديد الوضوح ولا يحتاج لا الى تفسير ولا تأويل، حيث قال ما حرفيّته: «إنّ الأزمة مع لبنان ترجع أصولها الى التكوين السياسي الذي يعزّز هيمنة «حزب الله» ويتسبّب باستمرار عدم الاستقرار».
بكلامه هذا، قطع الوزير السعودي حبل التفسيرات والقراءات التي احاطت بالإجراءات السعودية، وصوّب بوصلة الأزمة في اتجاه «حزب الله»، مخفِّضاً بذلك تصريحات أدلى بها قرداحي قبل توزيره في حكومة الرئيس نجيب ميقاتي الى رتبة السبب الثانوي، لا بل أقل من ثانوي. ومع ذلك تستمر بعض الاصوات الداخلية في التصويب على قرداحي، وتنال منه بالهجوم السياسي وبمزايدات هابطة وبالتجريح الشخصي، وكأنّه ارتكب أفظع جريمة في تاريخ البشرية؟!
ثمة سيل من الأسئلة يطفو على سطح الإجراءات السعودية:
اولاً، لماذا بادرت المملكة الى هذا التصعيد مع لبنان في هذا التوقيت بالذات؟
ثانياً، هل أنّ ما اتُّخذ من اجراءات هو عيّنة من «بنك إجراءات» ستتوالى تجاه هذا البلد؟
ثالثاً، أيّ ارتدادات او تداعيات او احتمالات قد حُسبت او رُسمت او قدّرت كنتيجة مباشرة لهذه الإجراءات على المسرح اللبناني؟
رابعاً، أي جدوى متوخاة من اجراءات عقابية تشمل كل اللبنانيين، وتأخذ في طريقها الصديق وغير الصديق، ومن شأنها أن تعمّق الأزمة في لبنان أكثر، وتشرّع الوضع فيه على كافة الاحتمالات؟
خامساً، هل هذه الإجراءات العقابية ضدّ لبنان جاءت بقرار سعودي أحادي الجانب، ام أنّها جاءت بتغطية دولية، وتحديداً من قِبل الولايات المتحدة الاميركية؟
سادساً، ما هو الثمن الذي تريده المملكة لقاء التراجع عن هذه الإجراءات؟ ومن سيدفع هذا الثمن؟
سابعاً، إذا كان «حزب الله» هو المستهدف بالتصعيد السعودي – وهو كذلك – فهل سيؤثر ذلك على الحزب؟
يستبطن التصعيد السعودي الذي جاراه بعض دول الخليج، تأكيداً متجدّداً على أنّ الكيل السعودي قد طفح من «حزب الله»، وهذا ما روّج له الإعلام السعودي والخليجي والقنوات الاعلامية الصديقة، وانّ المملكة ضاقت ذرعاً به، وانّها ماضية في تصفية الحساب معه والثأر منه، بأي وسيلة ومهما كان الثمن.
المسلّم به انّ هذا التصعيد ليس وليد اللحظة، بل هو يندرج في سياق يغلي منذ سنوات طويلة، حيث لم تخفِ السعودية يوماً – أقلّه منذ حرب تموز 2006، وبعدها منذ بدايات الأزمة السورية وبعدها الحرب على اليمن – رغبتها واندفاعها ليس فقط الى تأديب «حزب الله»، بل الى خنقه وسحقه وإزالته من الوجود. وليس سرّاً انّها استخدمت كل منصّاتها وكل المحافل في الامم المتحدة، ومجلس الامن الدولي، ومجلس التعاون الخليجي، وجامعة الدول العربية، لوضع حدّ لهذا الحزب الارهابي العابر للحدود على حدّ توصيفها، كونه تجرّأ ومسّ بمحرماتها في اليمن والبحرين والعراق وسوريا وبالتأكيد في لبنان.
ثمة من يقول انّ الدول الكبرى تبدو متفهمة للإجراءات التي اتّخذتها السعودية تجاه لبنان، ولا تستطيع الّا ان تجاريها لأنّ في خلفيتها استهدافاً لـ»العدو المشترك»، أي «حزب الله».
ولكن في المقابل، إنّ نقطة ضعف الإجراءات السعودية تتجلّى في أنّها اتُّخذت ّبحسب التوقيت السعودي فقط، وفي افتقادها التغطية الدوليّة التي تجعلها فاعلة ومجدية ومحققة للهدف الذي ترمي اليه السعودية في الخلاص من «حزب الله». فكثير من الدول الصديقة، التي تفوق عداوتها عداوة المملكة لـ«حزب الله» وترغب في التخلص منه نهائياً، ومع ذلك لم تُقدم ليس لضعف منها، بل ربطاً بدقّة وحساسية التركيبة اللبنانية وتوازناتها السياسية والطائفية الشديدة التعقيد، والتي يخشى مع أي تطور يصيبها، ان تنحدر الامور الى فلتان سياسي وأمني يؤدي الى تغييرات دراماتيكية تُسقط لبنان فعلاً في قبضة «حزب الله».
ما من شك انّ الإجراءات السعودية سقطت على واقع لبناني هشّ في كلّ مفاصله، ومهتزّ حكومياً ومنقسم على ذاته سياسياً وطائفياً، ومفترق بشكل حاد حول كل شيء، وغني ببذور الفرقة والتباعد، ويمتلك كل اسباب وعناصر وعوامل التفجير الذاتي، وما حصل في الطيونة وجوارها خير مثال.
وعلى ما هو واضح، فإنّ هذه الإجراءات مكمّلة بالوتيرة التصعيدية ذاتها؛ ربما يكون في حسابات المملكة انّ اجراءات تصعيدية من النوع الذي اتُخذ بحق هذا البلد، هي السبيل الى تحقيق الهدف السعودي الأسمى والمُعلن بالإجهاز على «حزب الله»، بدءاً بخلق مناخ شعبي غاضب على الحزب، بالتوازي مع هزّ العصا في وجه الهيكل السياسي القائم بلبنان والمتراخي او المستسلم لمشيئة الحزب، وحشره، في وقت ضيقه الاقتصادي والمالي، بعزلة خليجية شديدة القساوة في شتى المجالات، ولا خروج منها إلّا بالانتفاض على حزب تقول السعودية انّه يقبض على لبنان، والمسبّب لأزمته، والمسيء لعلاقاته مع الاصدقاء والأشقاء إنفاذاً لأجندة ايرانية. وصولاً الى كسر المعادلة الداخلية في لبنان، وتثبيت او فرض توازنات سياسية جديدة يكون فيها «حزب الله» في موقع الضعيف والمهزوم؟
بالتأكيد أنّ للإجراءات العقابية السعودية أثرها البالغ السلبية على لبنان وخصوصاً في المجال الاقتصادي. الّا انّ مفاعيلها لبنانياً لا تؤشّر الى انّها قادرة على تحقيق المراد منها وتحقيق تغييرات نوعيّة في الواقع اللبناني، ذلك انّ جرعة الإجراءات التي اتُخذت، القت على المسرح اللبناني عامل توتير إضافياً لا اكثر، تجلّت نتيجته السّريعة في تحريك الماكينات الإعلاميّة للتراشق السياسي بين أصدقاء المملكة وخصومها، وهو تراشق مجرّب ومعهود «من بعيد لبعيد»، من دون أن يغيّر ذلك في واقع الحال اللبناني شيئاً، وبمعنى أدقّ لا يؤثر من قريب أو بعيد على التكوين السياسي الذي تشكو المملكة من كونه يعزز هيمنة «حزب الله». مع الإشارة هنا الى انّ الحزب لا يبدو متفاجئاً بما يعتبره تصعيداً سعودياً يستهدفه. وعلى ما يقول قياديوه: «يبدو انّهم مصرّون على ان يُدخلوا أنفسهم في مأزق جديد، لم يتركوا شيئاً إلّا وجرّبوه، وفشلوا، وهم يدركون قبل غيرهم اننا لن نمكنهم منّا».
صحيح انّ الحكومة قد اصابها حرج كبير جراء الإجراءات السعودية، وبدا انّها تلقّت ضربة معنوية قاسية، وخصوصاً انّها جاهدت منذ توليها الحكم لفتح الباب السعودي امامها، والرئيس نجيب ميقاتي لم يترك مناسبة إلّا واكّد فيها الحرص على العلاقة الأخويّة مع المملكة وسائر العرب، ولطالما كرّر «انّ السعودية هي قبلتي».
وليس سراً انّ الإجراءات والقطيعة الخليجية مع لبنان قد هزّت الحكومة من دون ان تسقطها، ولكن هذا لا ينفي انّها تعاني من اضطراب في داخلها، ومن انقسام في الموقف من الوزير جورج قرداحي، وهو أمر متوقع في حكومة ليست من لون واحد. وطبيعي وسط هذا الانقسام ان تتبدّى صعوبة شديدة في التوفيق بين منطقين يتجاذبان الحكومة، وفي بلورة مخرج مشترك بين طرف ينادي باستقالة وزير الإعلام استجابة للرغبة السعودية، والتي من شأنها، أي الاستقالة، أن تشكّل المفتاح للباب السعودي والخليجي بشكل عام الذي أُقفل في وجه لبنان. وبين طرف يرفض التضحية بقرداحي، كون الأزمة ابعد من تصريحاته، وبالتالي يعارض اي إجراء بحق وزير الاعلام، ويرفض ما يعتبرها استقالة مجانية تذهب برأس قرداحي وحده، وتبقي لبنان مقيّداً وخاضعاً لتلك الاجراءات والقطيعة الخليجية له.
تشي هذه الصعوبة، بأنّ الحكومة في وضع داخلي لا تُحسد عليه، يبقيها عرضة لاحتمالات شتى، على الرغم من جرعة الدعم والحصانة الدولية الواسعة لها، التي وفّرتها واشنطن وباريس. وعكسها بشكل واضح حجم الاحتضان غير المسبوق الذي لقيه الرئيس نجيب ميقاتي في مؤتمر التغيّر المناخي في اسكتلندا، والمروحة الواسعة من اللقاءات المكثفة والمتتالية التي اجراها على هامش المؤتمر مع مسؤولين دوليين كبار، والذين اجمعوا على استمرار الحكومة في تحمّل مسؤولياتها وضرورة مضيها في الطريق المؤدي الى تحقيق الاصلاحات التي تفتح امام لبنان باب الخروج من الأزمة، والحفاظ على الاستقرار الداخلي وتحضير الأجواء الهادئة والملائمة لإجراء الانتخابات النيابية في موعدها المحدّد.
ولكن، كيف ستتمكن حكومة معطّلة من توفير كلّ ذلك؟ العلم عند الله!