كتب أنطوان الأسمر في “اللواء”:
تتعقد لبنانياً كلّما إرتضى الأفرقاء النافذون، ثنائيا كانوا أم سياديين، ربط الداخل بالخارج، مماشاة لأصحاب الحل والربط الإقليميين، عربا كانوا أم فرسا. وغالبا ما يدفع اللبنانيون البسطاء الثمن الأغلى في صراع المحاور وتابعيها، نتيجة تحوّلهم وقودا في حروب طارئة ومناوشات طائرة.
لم يمضِ شهر على الحكومة الوليدة حتى تعطّلت بقرار من أتى بها وبرئيسها، أولا إثر الإعتراض على أداء المحقق العدلي في إنفجار المرفأ القاضي طارق بيطار، وثانيا بفعل تحوّل كلام سُجّل قبل أسابيع من التشكيل الى ازمة متشعّبة تداخل فيها التوظيف السياسي بالابتزاز والتضخيم بالتنغيم.
لكن هل الأزمة في ما هو مرئي، أم ثمة جبل جليد كامن في مكان ما؟
ليس تفصيلا أن تنفجر لبنانياً في التوقيت العراقي الذي أعاد مقتدى الصدر الى صلب المشهد من خلال فوزه بالغالبية النيابية. وهو فوز سجّلته واشنطن لمصلحتها، وتعامل معه حلفاء إيران على أنه صفعة لمشروعهم في العراق، فيما يُنتظر أن يكون رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي الكاسب الأكبر من مجمل هذه التطورات الدراماتيكية. صحيح انه خيار توافقي بين واشنطن وطهران، لكن أداءه المتمايز على رأس الحكومة وحرصه على استعادة العراق الدور والمكانة، لم يجلب الراحة للقيادة الإيرانية.
وليس تفصيلا أن تؤدي النتيجة العراقية غير المتوقعة إيرانياً الى تعليق المفاوضات بين طهران والرياض، في إنتظار توضّح المعادلة السياسية في عراق ما بعد الإنتخابات التسريعية، والشكل الذي ستأتي عليه الحكومة الجديدة.
كما ليس تفصيلا أن تتزامن التعقيدات في العراق ولبنان مع السقوط الإستراتيجي لمأرب في أيدي الحوثيين، ومع تنصّل طهران من أي تأثير لها في اليمن وإحالة السائلين من سعوديين وغربيين الى حزب الله تحديدا، تكريسا لدوره القيادي في تلك البلاد السعيدة.
يرسم هذا المشهد الإقليمي صورة واضحة عن التأزم اللبناني، منطلقاً وتداعيات.
الحكومة الميقاتية في الأسر الإقليمي، وفريسة التوظيف الخارجي والخنوع المحلي، وحاجة المحورين المتناقضين الى حشد أوراق القوة أينما تسنى لهما ذلك. فكان أن عُلّق الحوار السياسي الإيراني – السعودي في انتظار جلاء المشهد.
ووسط التعبئة الحاصلة خليجيا، ومع حفظ عُمان موقفها المحايد المعتاد في ما يتعلق بالنزاعات العربية الداخلية، تقدّمت قطر عارضة العمل كوسيط لتسهيل الحوار بين لبنان ودول الخليج المستاءة والمتضامنة مع المملكة.
ومن المنتظر أن يحمل نائب رئيس الوزراء وزير الخارجية محمد بن رحمن آل ثاني في زيارته المرتقبة الى بيروت أفكارا وسيطية من شأنها أن تشكل برنامج عمل لإعادة الانتظام الى العلاقات اللبنانية مع الخليج، بما يتعدى الظاهر في الازمة الراهنة. لكن الرهان اللبناني على الوساطة القطرية يبقى في حدود المنطق، من دون إفراط أو مغالاة.
ولا يخفى أن ثمة رغبة رئاسية لبنانية لمأسسة العلاقة مع المملكة العربية السعودية تحديدا، بحيث تكتسب المناعة اللازمة التي تقيها تصريحا من هنا أو هفوة من هناك. ويُعدّ تحقيق هذه المأسسة إنجازا قائما بحد ذاته، لأنها السبيل الوحيد الى علاقة صحية مرتكزة على الإحترام المتبادل لا يشوبها أو يعكّرها ذمّ أو هجاء من هنا، أو إنسِطاح واستسهال مفرط من هناك.
ومن شأن هذه المأسسة، إن ومتى إنسحبت على علاقة لبنان بالدول المحيطة والمؤثرة فيه، أن تفكك ألغاما وأفخاخا طالما عرّضته للأخطار: خطر تدخّل الآخرين في شؤونه، وخطيئة تدخّله هو في شؤون الآخرين. لذا كانت العبارة المؤسسة للكيان «لا مقر ولا ممرّ» المفتاح الذي فشل أهل الحكم في توظيفها إيجابا. هي، بالقوة وبالفعل، لم تكن يوما سارية أو مطبّقة، لا قبل الحرب ولا بعدها، لمجرد إرتضاء الحكّام أن يحولوا لبنان منصة للتصفية لخلافات الدول والمحاور والمصالح، لقاء مكاسب سياسية ومادية.
هذا الدأب لم يحد عنه يوما المدعوون حكاماً. هم لم يتّعظوا من مخاطر جعل أنفسهم مجرد أداة في مشاريع خارجية، تختلف يوما وتتفق عقوداً!