كتب شارل جبور في “الجمهورية”:
لا تقارَن قبضة الرئيس حافظ الأسد التي حكم فيها لبنان بقبضة السيد حسن نصرالله التي يحكم فيها لبنان، وعلى رغم انّ الأول كان أقوى بكثير من الثاني، إلا انه اضطر في نهاية المطاف إلى إخراج جيشه من لبنان مع نجله بشار.
لم يُمسك حافظ الأسد لبنان بجيشه فقط، لا بل الجيش السوري كان آخر العناصر التي حكم فيها البلد، إنما ارتكز بالدرجة الأولى على الضوء الأخضر الأميركي، وبالدرجة الثانية على التفاهم مع المملكة العربية السعودية، وذلك بحجة انّ وجوده في لبنان هو لمنع الاقتتال الطائفي وتوحيد البلد وبناء الدولة، وبالدرجة الثالثة على تأييد الشيعة والسنّة والدروز وإدارة التوازن بينهم، وبالدرجة الأخيرة على جيشه.
فالأسد الأب أمسك لبنان بالديبلوماسية والسياسة أولاً، ومن ثم عن طريق العسكر والقوة، وكان يتعامل مع المجتمعين الغربي والعربي على قاعدة التمنين، بمعنى انه يُمنِّنهم بدوره في لبنان والذي اضطر معه إلى إرسال قسم كبير من جيشه لضبط الاستقرار في بلد لا يُضبط فيه الاستقرار، وفق ما كان يروّج من زاوية ان لبنان لا يحكم من الداخل بسبب الانقسامات الطائفية والمذهبية، وان الوسيلة الوحيدة لحكمه واستقراره هي من الخارج.
وأدرك حافظ الأسد منذ اللحظة الأولى ان لبنان لا يحكم بالقبضة العسكرية حصراً، إنما يحكم بالتفاهم مع المجتمعين الدولي والعربي، وفي سبيل هذا التفاهم سَوّق لنفسه 3 أدوار تشكل حاجة ومصلحة دولية:
الدور الأول، ضابط للحدود اللبنانية مع إسرائيل وضامن لها، فلم تعد الحدود سائبة لهذا الفصيل او ذاك، إنما تُحرّك من دمشق في حال وجدت ضرورة لتوجيه الرسائل الساخنة، وتُجمّد من قصر المهاجرين نفسه، ومعلوم ان إحدى أولويات واشنطن في الشرق الأوسط توفير أمن إسرائيل.
الدور الثاني، ضابط للاستقرار اللبناني وضامن له. فلم يعد عدم الاستقرار يهدِّد الجوار او ينعكس على مسار مدريد للسلام العربي-الإسرائيلي، خصوصاً مع دخوله على خط السلام مفاوضاً وموحياً بأنه مع «السلام العادل والشامل» لإغراء الأميركيين، فيما هو في العمق ضد السلام لاعتبارات عقائدية من جهة، ولاستمرار حكمه من جهة ثانية كأقلية تخشى من خطوة السلام مع تل أبيب من ردة فعل الأكثرية السنيّة.
الدور الثالث، ضابط للتوازن السعودي-الإيراني وضامن له، فأطلقَ بشكل أو بآخر يد الرئيس رفيق الحريري في الحكم والإعمار، وأطلق يد «حزب الله» في مقاومة إسرائيل، وكان يسهر على التوازن بين الطرفين، فلا يسمح لطرف بأن يكسر على الطرف الآخر، وبالتالي حافظ َعلى أفضل العلاقات مع الرياض وطهران في آن معاً من خلال موازنة دورهما في لبنان.
فقد أدرك الأسد انه لا يستطيع ان يحكم لبنان إذا لم يستنبط لنفسه أدواراً تشكل مصلحة لواشنطن بالعنوان الإسرائيلي الذي يبدأ بأمن شمالها ولا ينتهي بالسلام معها، وتشكل مصلحة للرياض بأنّ لبنان يحكم من حاضنة عربية لا إيرانية، وتعمل على منع الاقتتال وترسيخ الاستقرار.
فقد عرف حافظ الأسد من أين تؤكل الكتف الدولية، وعرف كيف يغري الأميركيين، وعرف كيف يروِّج لصورته بأنه رجل سلام، ويتعامل بعقلانية لا تهوُّر، وانه نجح بضبط الاستقرار في لبنان بعد 15 عاما من الحروب والاقتتال، وانه في حال أخرجَ جيشه تعود الحرب الأهلية، وأمسك بكل الدولة من رأسها إلى أصغر مؤسسة من مؤسساتها..
هذا على مستوى أدواره الخارجية، أما لناحية دوره داخل لبنان فأرسى توازناً بين «أمل» و»حزب الله»، والأخير كان مضبوط الإيقاع وحصرت فيه المقاومة، فيما تسلّمت الحركة الدور السياسي كاملاً، وأعطى رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط كل ما يوفّر له الدور والأمان، وتعامل مع الحريري كرئيس حكومة في لبنان ووزير خارجية لسوريا، من دون ان ينتقص من دور رئيس الجمهورية في لعبة التوازن الداخلي، ولكن التوازن الفعلي كان مثلث الأضلع: سني وشيعي ودرزي، والدور المسيحي كان هامشياً.
فلم يحكم حافظ الأسد لبنان بالعصا فقط، إنما من خلال علاقاته مع القوى الأساسية التي مَدّها بالدعم في الحرب وكانت تعتبره جزءا من الداخل اللبناني، وأرسى بين هذه القوى الحليفة له توازناً سياسياً من أجل ان يرتاح كل فريق لدوره. وبالتالي، عرف كيف يحكم لبنان بغطاء الخارج وتوازن الداخل، الأمر الذي اختلف مع نجله بشار الذي يفتقد إلى دهاء والده، ويتعامل بانفعالية، ولم يَفقَه أهمية الحفاظ على التوازن الداخلي الذي «طبش» معه لمصلحة «حزب الله» على حساب الآخرين الذين همّشوا سياسياً، والتوازن الخارجي الذي «طبش» معه لمصلحة طهران على حساب الرياض، وفشل في صيانة العلاقة مع الأميركيين واستطراداً الفرنسيين والترويج لحاجة دوره اللبناني.
وتأسيساً على ما تقدّم، هل من حاجة بعد لإجراء مقارنة بين حافظ الأسد وحسن نصرالله؟ فالثاني يمسك لبنان بالعنصر الأخير الذي عوّل عليه الأسد لحكم لبنان، اي العسكر، ولم ينجح ليس فقط باجتراح أدوار تُغري الخارج أكان واشنطن أم الرياض، إنما فعلَ المستحيل للصدام مع أبرز العواصم الخارجية التي صنّفته بالإرهابي، والصدام مع كل من يخالف رأيه في الداخل، وبالتالي نصرالله بهذا المعنى هو نقيض الأسد الأب: مواجهة مع عواصم الخارج، ومواجهة مع مكونات الداخل، ومن عامل استقرار في الداخل، إلى عامل عدم استقرار.
وعدا عن كون «حزب الله» قوة شيعية داخلية ويستحيل على اي فئة لبنانية ان تحكم الفئات الأخرى، خلافاً للأسد الذي هو عامل خارجي لا داخلي وكانت القوى الإسلامية تتعامل معه كجيش داخلي لا خارجي، فإنّ الحزب لم يرتكز في إمساكه بالقرار اللبناني سوى إلى جيشه الذي، بحسب قوله، يفوق المئة ألف مسلّح، ولم يكتف بالتبريد مع الخارج او بالتسخين مثلاً مع واشنطن والتبريد مع الرياض، بل وضعهما في مواجهته في سياسة تقوم على مُراكمة العداوات مع الخارج والداخل، وهذا طبيعي لأنه ذراع لدولة وليس دولة بذاته، ولأنه أداة أمنية وعسكرية وليس سياسية، اي لا يملك الخبرة السياسية، والدليل ان الميليشيات الإيرانية لم تُرسِ استقراراً لا في لبنان ولا العراق ولا اليمن، كونها ليست قوة استقرار.
ولو قرر حافظ الأسد ان يحكم لبنان بجيشه حصرا من دون إغراء الأميركيين بأدوار يحتاجون إليها، لما نجح في حكمه لعقد من الزمن قبل ان يستلم نجله الحكم بعد وفاته. ولو بقي على قيد الحياة لما نجح في إدارة مرحلة ما بعد الخروج الإسرائيلي من لبنان، وكانّ شأنه شأن نجله بشار الذي لم ينجح في إدارة لا الوضع اللبناني ولا السوري. ومعلوم ان لبنان دولة دقيقة التوازنات الطائفية والسياسية ولها علاقاتها الخارجية ولا تُحكم بالقبضة العسكرية التي لا يجيد «حزب الله» غيرها، ويظن انه من خلال الإعلان عن عديد جيشه (100 ألف) يخيف اللبنانيين فيتربع على عرش الدولة، فيما الرأي العام أسقط حاجز الخوف، ولا يستطيع الحزب المحظور في الخارج والمصنّف بالإرهابي، والذي هو على تناقض وخلاف مع معظم مكونات الداخل ان يحكم لبنان.
وتأسيساً على تجربة حافظ الأسد في لبنان التي دامت 15 عاماً بينه وبين نجله، ولكن هذه التجربة كانت ستنتهي عاجلا أم آجلا على رغم إغراءاته للأميركيين ومهارته في إدارة أوراقه السياسية مع الخارج وإرساء التوازن بين القوى السياسية في الداخل، فإنّ حسن نصرالله، الذي لا يملك سوى ورقة العسكر فقط لا غير، هو أضعَف بكثير مما كان عليه حافظ الأسد ومن ثمّ نجله بشار، وعلى رغم ذلك خرج الجيش السوري من لبنان واندلعت الثورة في سوريا. ولن يختلف مصير إمساك نصرالله بالقرار السياسي اللبناني عما آل إليه مصير آل الأسد في لبنان، والمسألة مسألة وقت لا أكثر ولا أقل، لأن لبنان لا يحكم من الخارج ولا من فئة من الداخل، إنما يحكم من خلال الدولة والدستور فقط لا غير.