كتب مسعود معلوف في “الجمهورية”:
يوم الثلاثاء في الثاني من تشرين الثاني، أي منذ أيام قليلة، جرت انتخابات محلية لاختيار حاكم لكل من ولايتي فرجينيا ونيو جيرسي، ورؤساء بلديات في بعض المدن، وأعضاء في المجالس التشريعية في عدد قليل من الولايات.
مع أنّ هذه الإنتخابات هي محلية وفرعية ولا تمثل إلّا نسبة ضئيلة من الحياة السياسية الأميركية، إلّا أنّه من المحتمل أن تكون لها انعكاسات هامة على الوضع السياسي العام، ليس داخل الولايات المتحدة فحسب، بل أيضاً على صعيد العلاقات الأميركية مع قسم لا بأس به من دول العالم.
قبل الدخول في التداعيات الناجمة عن هذه الإنتخابات، من المفيد توضيح أسباب إجراء جميع الإنتخابات في الولايات المتحدة، سواء المحلية أو التشريعية أو الرئاسية، دائماً يوم الثلاثاء في مطلع شهر تشرين الثاني. فاختيار هذا التاريخ من قِبل الكونغرس عام 1845 يعود الى طبيعة المجتمع الأميركي الذي كان يتميز في ذلك الوقت بأكثرية ساحقة من المزارعين. ورغبة من المشترع في إعطاء الفرصة لأكبر عدد ممكن من الناخبين لممارسة حقهم، وبما أنّ كلاً من فصل الصيف والربيع هو فصل الزراعة والإعتناء بالمزروعات، وبداية فصل الخريف مخصّصة بطبيعة الحال للحصاد، وفصل الشتاء يصعب فيه التنقل، وكون يوم الأحد مخصّص للذهاب الى الكنيسة والصلاة، ولأنّ مراكز الإقتراع كانت قليلة العدد وبعيدة عن المناطق السكنية، ما كان يقتضي تمضية وقت طويل وأحياناً نهاراً كاملاً للوصول إليها، إذ لم تكن وسائل النقل السريع متوفرة في تلك الأيام، تقرّر آنذاك أن تحصل الإنتخابات يوم الثلاثاء الذي يلي أول يوم اثنين من شهر تشرين الثاني. وما زال هذا التقليد سارياً حتى يومنا هذا.
في الإنتخابات التي جرت يوم الثلاثاء الماضي، فاز المرشح الجمهوري بمركز حاكم ولاية فرجينيا، التي فيها تقليدياً أكثرية ديمقراطية، أي من حزب الرئيس جو بايدن، كما أنّ المرشح الديمقراطي في ولاية نيو جيرسي لم يتمكن من الفوز إلّا بنسبة ضئيلة جداً، يضاف الى ذلك أنّ بعض أعضاء المجالس التشريعية من الحزب الديمقراطي خسروا مقاعدهم لصالح أعضاء من الحزب الجمهوري، وأحد أبرز الأعضاء الجمهوريين الذين فازوا في المجلس التشريعي لولاية نيوجيرسي، هو سائق شاحنة تمكّن من إزاحة رئيس مجلس الشيوخ الديمقراطي الذي يحتل هذا المركز منذ مدة طويلة في هذه الولاية.
إنّ هذه النتائج غير السارة للرئيس بايدن وللحزب الديمقراطي عامة ستكون لها تداعيات على الصعيدين الداخلي والخارجي:
أولاً، على الصعيد الداخلي
بما أنّ الفائزين الجمهوريين في هذه الإنتخابات معروفون بتأييدهم التام للرئيس السابق دونالد ترامب، فإنّ خسارة الديمقراطيين المؤيّدين علناً وبقوة للرئيس جو بايدن، هي بمثابة انتصار لترامب على بايدن، رغم أنّ الإنطباع السائد قبل الإنتخابات واستقصاءات الرأي كانت تشير الى تفوق الديمقراطيين وتراجع ملموس في شعبية ترامب. من هنا، فإنّ من أولى تداعيات هذه الإنتخابات زيادة احتمال ترشح ترامب للرئاسة عام 2024، وربما انتصاره، إذا لم يتمكن الرئيس بايدن من تحسين وضعه أمام الناخبين في الفترة القادمة.
كما أنّ الفوز النسبي الذي حققه الحزب الجمهوري في هذه المرحلة، من شأنه أن يعطي الحزب زخماً وتشجيعاً في الإنتخابات العامة التشريعية التي ستجري في شهر تشرين الثاني من العام المقبل، وليس مستحيلاً ان يتمكن هذا الحزب من السيطرة على مجلس النواب الذي يتمتع فيه الديمقراطيون حالياً بأكثرية ضئيلة، ومن السيطرة أيضاً على مجلس الشيوخ، حيث هنالك حالياً مساواة في عدد الأعضاء بين الحزبين، والصوت الراجح تحدّده نائبة الرئيس الأميركي التي هي الرئيس الفعلي لمجلس الشيوخ، ما يعني انّه، في حال خسر الديمقراطيون مقعداً واحداً في الإنتخابات المقبلة، وهذا أمر محتمل في ظلّ الظروف الراهنة، فإنّ برامج الرئيس بايدن ستتعرّض لمزيد من العرقلة، ما سيؤدي الى صعوبة كبرى لإعادة انتخابه عام 2024، أو لإيصال رئيس من الحزب الديمقراطي إذا قرّر بايدن عدم الترشح.
منذ أن تولّى بايدن الرئاسة مطلع العام الماضي وهو يسعى الى تحقيق برامج اقتصادية هامة، ولكنه يلاقي معارضة قوية من قِبل الجمهوريين في كل من مجلسي الشيوخ والنواب التابعين للكونغرس، وهذا بالإضافة الى انقسامات داخل الحزب الديمقراطي بين تيار التقدميين الذين يطالبون بمزيد من التدخّل الحكومي والمساعدات للمواطنين، وتيار المحافظين الذين يدفعون بالإتجاه المعاكس. على هذه الخلفية، سيتشجع الجمهوريون بعد فوزهم الآن في الإنتخابات الفرعية وارتفاع أملهم بالفوز مجدداً في انتخابات العام المقبل، على القيام بعرقلة متزايدة لقوانين الموازنة والمساعدات الإجتماعية والضرائب على الأغنياء، ما يحتمل أن يؤدي الى عدم تمكّن الرئيس بايدن من تحقيق وعوده وبرامجه، وهذا ما سيجعله عرضة لانتقادات أكثر حدّة وإساءة لرئاسته.
ثانياً، على الصعيد الخارجي
يسعى الرئيس بايدن جاهداً الى إعادة الولايات المتحدة الى سابق عهدها من الاستقرار في علاقاتها الدولية، خصوصاً مع الحلفاء الأوروبيين، الذين لم تكن علاقة ترامب معهم على ما يرام، لا سيما ألمانيا، وكذلك الحلفاء في منظمة حلف شمال الأطلسي، الذين كانوا قد أعربوا عن ارتياحهم عند انتخاب بايدن رئيساً بدلاً من ترامب. من هذا المنطلق، إنّ استعادة ترامب للأمل بالعودة الى البيت الأبيض قد تجعل هذه الدول متردّدة في المضي قدماً في السير وراء قيادة الولايات المتحدة في عهد بايدن، علماً أنّ بايدن أعاد الولايات المتحدة الى اتفاقية باريس للمناخ والى منظمة الصحة العالمية، وعزّز الوجود الأميركي في حلف شمال الأطلسي، وكل هذه الأمور قد يعود عنها ترامب في حال أعاده الناخبون الى الرئاسة عام 2024.
أما الأمر الخارجي الثاني الذي قد يتأثر من نتائج الإنتخابات المحلية فهو مفاوضات الإتفاق النووي الإيراني، إذ تسعى إدارة بايدن الى إعادة الإنضمام اليه بعد ان سحب ترامب الولايات المتحدة منه، ولم يكتف بإعادة فرض العقوبات الأميركية السابقة على إيران عند انسحابه من الإتفاق، بل أضاف عليها عقوبات جديدة وقاسية جداً. وجرت حتى الآن 6 جولات من المفاوضات المباشرة في فيينا بين إيران ووفود الدول الأخرى الموقّعة على الإتفاق، باستثناء الولايات المتحدة التي كانت تتفاوض معها إيران بصورة غير مباشرة، وقد وافقت إيران على ان تبدأ الجولة السابعة في التاسع والعشرين من الشهر الجاري. وأحد المطالب التي تكرّرها إيران هو التزام الإدارة الأميركية بعدم الإنسحاب مجدّداً من هذا الإتفاق متى تمّت الموافقة عليه، ولكن إدارة بايدن لا تستطيع إلزام أية إدارة أميركية جديدة بهذا الأمر، إلاّ في حال تحويل الإتفاق الى معاهدة دولية يصادق عليها الكونغرس، وهذه مسألة شبه مستحيلة، إذ لن يوافق الجمهوريون على الإتفاق، وهذا ما حدا بالرئيس الأسبق أوباما الى توقيع الإتفاق عام 2015 بقرار تنفيذي من دون المرور عبر الكونغرس. والآن بعد ارتفاع حظوظ ترامب بعض الشيء في العودة الى البيت الأبيض، فإنّ إيران قد تتردّد في الموافقة على تطبيق الإتفاق خشية من انسحاب أميركي جديد منه.
على صعيد آخر، لعب بايدن دوراً قيادياً في قمة المناخ التي عُقدت أخيراً في مدينة غلاسكو في اسكوتلندا، وألزم بلاده بتخفيضات تدريجية في انبعاثات الميثان الناتجة من استعمالات الفحم والمنتجات البترولية، كما التزم بالتحول نحو الطاقة البديلة، وهذه الأمور تستدعي تعديل قوانين من المحتمل جداً، إن لم يكن من المؤكّد، أنّها ستلقى معارضة قوية في الكونغرس، خصوصاً وأنّ الجمهوريين حقّقوا الآن مكاسب جديدة، وهم بمعظمهم يتبعون ترامب في عدم الإعتراف بالمسؤولية البشرية في التغيّر المناخي الذي يصيب الكرة الأرضية. وفي هذا المجال أيضاً، فإنّ نتائج الإنتخابات الفرعية قد يكون لها تأثير على السياسة الخارجية الأميركية، وقد تؤدي الى عدم تمكن الولايات المتحدة من تنفيذ بعض التزاماتها الدولية.
أمر آخر في مجال السياسة الخارجية الأميركية يمكن أن يتأثر بنتائج الإنتخابات المحلية التي لم تكن لصالح الرئيس بايدن، هو علاقات الولايات المتحدة مع الصين. معروف أنّ هذه العلاقات غير جيدة في الوقت الحاضر، وقد تستغل الصين ضعف الرئيس الأميركي وانشغاله بالملفات الداخلية، كي تزيد من ضغوطها وتهديداتها على تايوان، رغم الوعود الأميركية بالمدافعة عن هذه الجزيرة التي تعتبرها الصين جزءاً لا يتجزأ من أراضيها. ويبدو أنّ تهديدات الصين بغزو الجزيرة أكثر جدّية هذه الأيام مما كانت عليه في الماضي، ويُخشى أن تنفّذ الصين تهديداتها في المستقبل غير البعيد، مستفيدة من ضعف الولايات المتحدة وانشغالها بخلافاتها الداخلية المتزايدة..
وبالنسبة الى الشرق الأوسط، لا يستبعد المراقبون حصول مزيد من التصلّب الإسرائيلي تجاه الفلسطينيين، على خلفية احتمال عودة ترامب الى البيت الأبيض، وما يتوقعونه من تأييد تام ودعم أعمى لإسرائيل، على غرار ما فعله أثناء رئاسته. ولن نتفاجأ إن رأينا في المستقبل القريب رفضاً أو مماطلة من قِبل إسرائيل لأي اقتراح يمكن أن تقدّمه إدارة الرئيس بايدن لقضية الشرق الأوسط، كون القيادة الإسرائيلية بانتظار ما سيستجد على الساحة الأميركية بالنسبة الى التزاحم والتنافس بين ترامب وبايدن.
إنطلاقاً من هذه الوقائع، أصبح الرئيس جو بايدن أمام تحدّيات جديدة، داخلية وخارجية، تبعاً لنتائج الإنتخابات المحلية التي جرت منذ أيام قليلة. ولكن ما زال أمامه متسع من الوقت ليصحح المسار ويستعيد المبادرة، وقد حقق انتصاراً نسبياً منذ يومين، عندما تمكن الديمقراطيون في مجلس النواب من التصويت على قانون إعادة تأهيل البنى التحتية في البلاد الذي يتبناه بايدن، بعد ان انضمّ اليهم بعض أعضاء الحزب الجمهوري، إذ وافق بايدن على تخفيض المبالغ المخصّصة لهذا المشروع، والتي كان يعارضها الجمهوريون بقوة، وهذا القانون من شأنه، عند تنفيذه، أن يخلق الملايين من فرص العمل، ويحقق لبايدن بعض التأييد الشعبي الذي سيكون بأمسّ الحاجة إليه في انتخابات العام المقبل.
ومن أجل أن يتمكن بايدن من التصدّي بنجاح لهذه التحدّيات التي تواجهه، عليه قبل كل شيء رأب الصدع داخل حزبه بين تيار التقدميين الذين صوّتوا ضد مشروع قانون إعادة تأهيل البنى التحتية، وتيار المحافظين والوسطيين، إذ أنّ الحزب الديمقراطي بحاجة الى كل عضو من أعضائه في المستقبل ليتمكن من إقرار مشاريع الرئيس بايدن، التي من شأنها أن تزيد من التأييد الشعبي له، لقطع الطريق أمام عودة ترامب الى البيت الأبيض، مع ما قد يرافق هذه العودة من تغيير غير مستحب في علاقات الولايات المتحدة مع الحلفاء والأخصام على حدّ سواء. فهل سيتمكن بايدن من استعادة المبادرة له ولحزبه قبل الانتخابات التشريعية النصفية التي تجري في منتصف العهد الرئاسي بعد عام من الآن؟