كتب جوني منير في “الجمهورية”:
الرسالة الأهم التي أرادت واشنطن إرسالها من خلال البرنامج الحافل لزيارة قائد الجيش العماد جوزف عون بأنّ الولايات المتحدة الاميركية، وعلى رغم الانهيارات المتلاحقة التي يشهدها لبنان، الا أنها لا تريد له ان يصبح دولة فاشلة، وهذا ما لن يحدث.
وما بين الزيارة الاولى للعماد جوزف عون الى واشنطن وزيارته الخامسة تطورات هائلة أصابت الساحة اللبنانية
ففي العام 2017 لبّى العماد عون دعوة رئيس اركان الجيوش الاميركية الجنرال جوزف دانفورد يومها لزيارة القيادة العسكرية الاميركية حينها حرص قائد الجيش على ان يكون توقيتها بعد انجاز الانتصار على التنظيمات الارهابية في جرود عرسال.
وخلال تلك الزيارة تركزت المباحثات مع دانفورد كما مع كبار المسؤولين العسكريين الاميركيين على تعزيز قوة الجيش وتأمين اللازم له لتطوير قدراته والحفاظ على جهوزيته. 4 سنوات كاملة فصلت ما بين الزيارة الاولى والزيارة الخامسة. وخلال هذه السنوات الأربع تطورات هائلة ضربت الساحة اللبنانية اضافة الى تحديات خطيرة اجتازها الجيش بنجاح رغم صعوبة وقساوة الظرف. وكانت خلالها القيادة العسكرية الاميركية تسجل لقيادة الجيش اللبناني نجاحها في التعامل والمحافظة على الاسلحة الاميركية المرسلة اليه. ذلك انّ اصواتاً في الداخل الاميركي كانت تبني موقفها المعارض لدعم الجيش اللبناني على اساس ان هذه الاسلحة والمعدات ستتسرّب الى «حزب الله»، وان هنالك شواهد كثيرة حصلت في السابق في هذا الاطار. كذلك سجلت القيادة العسكرية الاميركية استمرار التماسك المتين داخل الجيش رغم «المطبّات» الصعبة التي مرّ بها لبنان وحيث يدرك الجميع مدى حساسية النسيج الاجتماعي اللبناني، الا أن الجيش لم يتراجع امام التحديات والضغوط، وأثبتَ لحمته وقدرته على العمل رغم الظروف القاهرة. واخيراً وليس آخراً الانهيار الاقتصادي والمعيشي في لبنان وسط تفشي الفساد، وعلى رغم ذلك نجحت قيادة الجيش ولو بصعوبة ومعاناة في الاستمرار في القيام بالمهام المطلوبة وفي الوقت نفسه بالبقاء محصنة ضد الفساد.
وخلال هذه السنوات الاربع، زار واشنطن العديد من المسؤولين والسياسيين اللبنانيين عمل بعضهم على التحريض على قيادة الجيش لأسباب مختلفة ومتعددة، سرعان ما ظهر عدم صحته. ومنذ فترة غير بعيدة، عمّم البيت الابيض قراراً رئاسياً على الادارات الاميركية المعنية بضرورة العمل على مساعدة الجيش اللبناني. صحيح ان القرار صادر عن الادارة الديموقراطية الا أنه شكل تقاطعاً مع الحزب الجمهوري المعارض. وهو ما ظهر بوضوح من خلال اللقاءات التي اجراها العماد عون خلال زيارته الاخيرة حيث التقى مثلاً إضافة الى كبار المسؤولين في الحزب الديموقراطي مسؤولين كبار في الحزب الجمهوري مصنفين في خانة الصقور. وهو ما يعني انّ هنالك تفاهماً بين الديموقراطيين والمهوريين على مساعدة لبنان من خلال الجيش اللبناني.
وبالتالي، وعلى رغم المخاوف الكبيرة الموجودة لدى اللبنانيين حيال مستقبل بلادهم وسط المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها المنطقة والتي يجري فيها اعادة رسم الخارطة السياسية، ثمة حرص اميركي على تجنيب لبنان الانزلاق باتجاه الدولة الفاشلة، أو أن يكون ثمناً للتسويات الجاري ترتيبها. وان السبيل الى ذلك من خلال دعم الجيش الذي يعتبر العمود الفقري لإعادة بناء مؤسسات الدولة مستقبلاً. ومن الطبيعي أن تكون الازمة المستجدة مع دول الخليج قد أرخت بثقلها على زيارة قائد الجيش، لسببين اساسيين: الاول، يتعلق بتبيان الخلفية الحقيقية للازمة الحاصلة والمدى الذي يمكن ان تصل اليه، وتأثيراته على الوضع اللبناني المتهالك اصلاً، والثاني يتعلق بالتعويل على السعودية ودول الخليج في مساعدة لبنان وخصوصاً الجيش اللبناني بعد انهيار قيمة رواتب عناصره.
الواضح ان الادارة الاميركية التي تدخلت فوراً نجحت في فرملة مزيد من الاجراءات السعودية شرط قيام لبنان بخطوة مقابلة، لكن واشنطن فشلت في تبديد الازمة الحاصلة وسط انطباع بأنها ستطول. إلا أن الادارة الاميركية تدرك جيداً ان الاوضاع المعيشية لأفراد المؤسسة العسكرية لم تعد تحتمل المزيد من الوقت، ما يعني ان على الاميركيين البحث عن مصادر تمويل المؤسسة العسكرية من خلال طرق بديلة طالما ان القوانين الاميركية تقف حائلاً امام تحقيق دعم مالي سريع. «سنجد طريقة» يقول مسؤول في الادارة الاميركية، ويتابع قائلا: «عندما كنا نرصد 3 مليارات دولار للجيش الافغاني كنا نتدبر امرنا، فكيف اذاً مع مبلغ لا يتجاوز الـ100 مليون دولار؟ «سنجد الطريقة حتماً».
الأرجح ان المسؤول الاميركي كان يلمّح الى السعي لإيجاد آلية من خلال الامم المتحدة، وكان قد جرى اتباعها سابقاً خلال برنامج دعم الجيش الصومالي. ووفق المعلومات فإن اعادة احياء هذه الآلية بدأ البحث فيها بين واشنطن والامم المتحدة، وعلى اساس ايجاد صندوق يدور البحث حول كيفية تغذيته.
وفي وقت يشتكي فيه العالم بأسره من الفساد الذي ضرب ركائز لبنان الاقتصادي والمالية، أقرت واشنطن رفع قيمة المساعدات العسكرية السنوية للجيش من 120 مليون دولار الى 187 مليون دولار سيبدأ تطبيقها بدءاً من السنة المقبلة. فواشنطن مقتنعة بأن كلفة دعم الجيش اقل بكثير من كلفة عدم دعمه. أما الملف الثاني الذي يحوز اهتمام السلطات الاميركية فهو المتعلق بترسيم الحدود البحرية، وعندما سئل العماد عون عن هذا الملف كان جوابه مختصراً: «لقد اعطينا رأينا التقني، وسلّمناه للسلطة السياسية حيث اصبح الملف بيدها. وما تقرره السلطة اللبنانية نحن نلتزم به».
لم يستفِض المسؤولون الاميركيون في طلب المزيد من الايضاحات المفصلة ربما بسبب المصداقية التي تتمتع بها قيادة الجيش، اضافة الى القناعة التي كوّنها المفاوض الاميركي أموس هوكستين بعد زيارته لبنان بأن المفاوضات البحرية لن تطول كثيراً، خصوصاً بعدما سمع لغة واحدة لدى جميع المسؤولين اللبنانيين.
أما الرسالة الثالثة التي أرادت واشنطن ارسالها فتتعلق بحتمية حصول الانتخابات النيابية اللبنانية في موعدها الطبيعي. وسعى المسؤولون الاميركيون على مختلف توجهاتهم ومشاربهم للتأكيد بأن العقوبة ستكون قاسية على الجهة التي ستعمل على «فَركشة» الاستحقاق النيابي المنتظر. الاجواء نفسها كان قد سمعها رئيس الحكومة نجيب ميقاتي خلال لقاءاته في غلاسكو. وكذلك جميع الوفود الاجنبية التي تزور لبنان تضع بند اجراء الانتخابات النيابية في طليعة مباحثاتها. وقد يكون هذا الالحاح نابع عن شكوك موجودة بسَعي اطراف لبنانية «لتطيير» الانتخابات تحت اعذار مختلفة. فهنالك من يريد التحايل على التحول الكبير الذي أصاب الشارع اللبناني.
أما الرسالة الرابعة فتتعلق بضرورة التخفيف من الأعباء الحياتية التي تثقل كاهل اللبنانيين، وفي طليعتها «مسخرة» الكهرباء كما يصفها أحد كبار الديبلوماسيين الغربيين. وهذا الكلام يَستتبع موضوع استجرار الغاز من مصر الى لبنان وايضاً استئجار الكهرباء من الاردن. الواضح ان واشنطن لا تريد المساومة على لبنان، لذلك تعمل على مَدّه بالأوكسيجين لكي يستطيع تمرير المرحلة الانتقالية الصعبة والقاسية والمقدّر لها ألا تقل عن سنة ونصف السنة، قبل الوصول الى تفاهمات وتسويات في سوريا ولبنان. لذلك لواشنطن مصلحة في وقف المزيد من تدهور الوضع في لبنان ومنعه من الوصول الى مصاف الدول الفاشلة كما هو حال دول أخرى في الشرق الاوسط، خصوصاً ان للبنان موقعاً مميزاً ما بين سوريا الملتهبة واسرائيل المحشورة، والبحر الابيض المتوسط الذي اصبح ذا جاذبية ملفتة في الآونة الاخيرة.
اما ملف «حزب الله» فطُرح بشكل عادي، نظراً لأن واشنطن تعرف جيداً موقف قيادة الجيش، وهي كانت قد سمعته مراراً في السابق. واشنطن ترسل الاشارات المتتالية بأنها مهتمة بلبنان ولو أن ملفه سيبقى جانباً في هذه المرحلة. وأن تهديد استقراره سيكون له ثمناً وان اولويتها مساعدة الجيش اللبناني وحمايته، وهو الذي لم يتراجع امام التحديات والضغوط، ولأنه سيشكل المدخل الالزامي لإعادة بناء مؤسسات الدولة من جديد وبعد انجاز التسويات الاقليمية المطلوبة. فالجيش أثبت وحدته ولحمته رغم الظروف القاهرة وقدرته على العمل وسط بيئة تعاني كل انواع الامراض وتفشي الفساد على نطاق واسع.