لا تعكس «البرودة» المتمادية من لبنان الرسمي بإزاء الانتكاسة الأكبر في علاقاته مع دول الخليج العربي، تبريداً للأزمة التي انفجرت قبل نحو أسبوعين على خلفية تصريحات وزير الإعلام جورج قرداحي العدائية للسعودية ودولة الإمارات، بمقدار ما أنها تعبّر عن انعدامِ أي هوامش للسلطات المعنية لإدارة هذا الملف الشائك بما يسحب توظيفَه في مواجهةٍ مع الرياض تشكّل امتداداً لمسار «الضغط على الزناد» الذي تعتمده إيران في اليمن وتمدَّد إلى العراق و«بلاد الأرز».
فلبنان المنكوب الذي يقف على «رِجْلٍ ونصف» وهو يترقّب تداعيات تظهير عجزه عن مقاربة الأزمة مع دول الخليج بما يلزم من خطواتٍ تبدأ بإقالة قرداحي أو دفْعه للاستقالة، والذي يكتفي بـ «إعلان نياتٍ» يبرّر عدم القدرة على ترجمتها إما بـ«فائض قوة» حزب الله وإما بعدم إمكان تَحَمُّل تبعات تفجير الحكومة، بدا غداة زيارة الأمين العام المساعد للجامعة العربية حسام زكي وكأنّه يَمْضي في الـ business as usual محاولاً التكيّف مع تعليقٍ طويل لجلسات مجلس الوزراء التي «احتجزها» الثنائي الشيعي (الحزب وحركة أمل) بقوّة الفيتو الميثاقي كما الثلث المعطّل منذ إطلاقه معركة الإطاحة بالمحقق العدلي في انفجار مرفأ بيروت القاضي طارق بيطار قبل أن تهبّ العاصفة الديبلوماسية مع الرياض وعدد من دول مجلس التعاون الخليجي.
وإذا كان لبنان الرسمي أوحى أمام زكي وبعد انتهاء زيارته لبيروت بأنه يريد معالجة الأزمة مع الخليج ولكن «حاولنا ولم نستطِع» في ما خص الخطوة – المفتاح لأي مسار معالجةٍ والذي يتمثّل في خروج قرداحي من الحكومة، فإن أوساطاً واسعة الاطلاع تحذّر من ارتدادات أي سلوكٍ من بيروت ينطلق من استشعارٍ بأنه جرى امتصاص «الصدمة الأولى» من الإجراءات الخليجية تجاه «بلاد الأرز» وتالياً الاستكانة لرغبة دولية في بقاء حكومة الرئيس نجيب ميقاتي لترْك خط الدفاع الخارجي هذا يتحوّل خط هجوم بوجه المملكة العربية السعودية وفق ما يعبّر عنه تعاطي «حزب الله».
وفي حين يسود ترقُّب لإطلالة الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله يوم غد، وسط خشية من أن يرتّب أي تتويج للمسار التصاعدي ضد المملكة الذي اعتمده قياديون فيه تداعياتٍ تستدعي مرحلة جديدة من الإجراءات الخليجية، فإن الأوساط المطلعة توقفت عند ملامح تحوّل هذا الملف عنوان استقطاب سياسي حاد داخلياً، في ظل اصطفافٍ مستعاد «ولو بالمفرّق» ومن دون أن يتخذ أي طابع «جبْهوي» يعيد الانتظام، أقله حتى الساعة، داخل ما كان يُعرف بتحالف «14 مارس»، وهو ما بدأ يثير علامات استفهام حول انعكاسات هذا الأمر:
أولاً على المستوى السياسي الذي كان شهد في الأعوام الأخيرة شبه «تطبيع» مع الوقائع التي فرضها «حزب الله» تباعاً منذ 2005 وذلك تحت عنوان «الواقعية»، وصولاً لإمساك الحزب بكل مفاصل القرار ابتداء من 2016.
وثانياً على صعيد الاستعدادات لانتخاباتٍ نيابيةٍ (ربيع 2022) مازالت عالقة أساساً في حقل ألغام، خصوصاً أن عودة السخونة السياسية تحت عناوين رئيسية تتصل بصلب الخلافات التي جرى «تنويمها» وترتبط بمجمل وضعية «حزب الله» وتحكُّمه بالخيارات الاستراتيجية وانخراطه في صراعاتٍ واستهدافاتٍ تطاول دول الخليج يُنْذِر بأن يتحوّل عَصَباً في نيابية 2022 التي تزداد المخاوف من تطييرها في ظلّ تراجعاتٍ شعبية لحلفاء الحزب والتناحر بين هؤلاء الحلفاء.
وثالثاً على المستوى الأمني، وسط مخاوف من أن ينزلق الوضع الداخلي في لحظة أو أخرى إلى توتراتٍ أو استهدافات على شاكلة ما بدا «رسالة موقّعة» في العراق ضد رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي موصولة بارتدادات نتائج الانتخابات، خصوصاً أن الأيام الأخيرة شهدتْ تفلُّت المشهد اللبناني من كل ما اعتُقد أنه «ضوابط» وُضعت لتوصيف المشكلات الداخلية ووضعية «حزب الله» ودور إيران التي لم تعُد دوائر مراقبة تكتم أنها لا يمكن أن تسلّم بأن تُسحب من أيديها الأوراق التي راكمتْها في ساحات «قوس نفوذها» عبر صناديق الاقتراع التي يُخشى أن تنافسها قرقعةُ السلاح.
وفي حين تساءل بعض الأوساط، هل يمكن لتعاظُم الاندفاعة السياسية الداخلية بوجه «حزب الله»، وكان آخرها من الزعيم الدرزي وليد جنبلاط بعد مواقف السقف العالي في بداية الأزمة من زعيم «تيار المستقبل» الرئيس السابق للحكومة سعد الحريري، وأمس، الأمين العام للتيار أحمد الحريري، بعد حزب «القوات اللبنانية»، أن يُحْدث نوعاً من التوازن السياسي الداخلي يكون كفيلاً بتعويض «غيبوبة» لبنان الرسمي عن احتواء الأزمة مع الخليج، فإن مصادر أخرى ترى أنه بمعزل عن هذا البُعد فإن الواقع المحلي يبدو متجهاً نحو مناخاتٍ ساخنة تتشابك فيها كل عناصر التأزم المُزمنة مع الأزمات المستجدة وحسابات الانتخابات النيابية.
وكان جنبلاط هاجم «حزب الله» بعنف، معلناً عبر محطة «أم تي في»، أن “المخرج الآني للأزمة مع السعودية والخليج هو في إقالة قرداحي ثم الاعتذار من الخليج وليس العكس كما يريد البعض في محور الممانعة ـ وليسمح لنا حزب الله الذي صبرتُ عليه كثيراً».
وإذ وصف أداء ميقاتي في هذه الأزمة، بأنه «ممتاز»، اعتبر أن «حزب الله خرب بيوت اللبنانيين في الخليج»، سائلاً «أين موقف رئيس الجمهورية (ميشال عون) من الأزمة”؟
بدوره، غرّد أحمد الحريري «ما أكثر سفهاء السياسة اليوم من الجاهلين بتاريخ علاقات لبنان العربية، والحاقدين على كل ما هو عربيّ، متنكّرين للفضائل العربية ولاهثين وراء الفضلات الفارسية»، متوجهاً لكل سفيهٍ يتطاول على السعودية ودولة الإمارات ودول الخليج العربي نقول ما قاله الإمام الشافعي: «يخاطبني السفيه بكل قبح فأكره أن أكون له مجيباً يزيد سفاهةً فأزيد حلماً كعودٍ زاده الإحراق طيباً».
وفي المقابل، برز موقف عالي النبرة للمفتي الجعفري الممتاز الشيخ أحمد قبلان أعلن فيه «لن نقبل بعد اليوم هذا النوع الخبيث من تحليل دم طائفة بأمّها وأبيها عن طريق النيل من حركة أمل وحزب الله بهدف تقديم أوراق اعتماد ببصمة الدم لهذه العاصمة وتلك».
وقال: «إذا كان لبنان محتلاً فهو من المجموعات الأميركية وجوقة رخيصة جداً من السياسيين والإعلاميين الممسوكين بحبل الدولار»، مضيفاً في ردّ ضمني على جنبلاط: «مَن خرّب بيوت اللبنانيين هو من هجّر وقاد مجموعات الذبح والهدم والتطهير الطائفي لا من حرّر وقاد أكبر ملحمة نصر في لبنان والمنطقة».
ورأى قبلان أن «المطلوب وأد الفتنة لأن الفتنة إذا اشتعلت هذه المرة فستحرق كل لبنان، وكفانا بيعاً لهذا البلد بثمن بخس من براميل النفط وحقائب الدولار.
ونصيحتي: ما تحرقوا البلد بالدفعة والفاتورة، لأن لبنان أكبر من أن يتحوّل(فيديرالية أو متصرفية) لأحد، والشاطر مَن يفهم التاريخ لا مَن ينتحر مجدداً».