كتبت رلى موفق في “اللواء”:
كان همُّ النظام السوري في زمن هيمنته على لبنان ألاَّ يتم بناء الجسور بين المسيحيين والمسلمين، بعد انتهاء الحرب اللبنانية عام 1989، وذهاب اللبنانيين إلى مدينة الطائف السعودية لإنجاز الصيغة النهائية من اتفاقهم على تعديلات دستورية وإصلاحات في النظام، والتي عُرفت بـ«اتفاق الطائف». صحيح أن المناطق اللبنانية فُتحت على بعضها البعض، وحُـلَّـت الميليشيات التي كانت تُسيطر عليها، إلا أن عينَ دمشق كانت دائماً ساهرة على منع أي حوار حقيقي بين المكوّنات اللبنانية خوفاً مِن توحُّدِهم على مطلب خروج القوات السورية الذي وَضعتْ «وثيقة الوفاق الوطني» خارطة طريق له، قبل أن تُطيح تطوّرات حرب تحرير الكويت بمنجزات الاتفاق في نسخته الأصلية، لتحلَّ مكانها نسخة مشوّهة أُطلقت عليها تسمية «الطائف السوري»، والذي لا تزال مفاعليه هي السائدة إلى يومنا هذا.
وحين توحَّد اللبنانيون، مسلمين ومسيحيين، على وقع زلزال اغتيال الرئيس رفيق الحريري في شباط 2005، استطاعوا إخراج القوات السورية من البلاد، وقدَّم المجتمع الدولي الدعم لهم. وحين كانت تلك القوى التي كانت منضوية بأطيافها السياسية تحت عباءة قوى «الرابع عشر من آذار» في مقابل قوى المحور السوري – الإيراني المنضوية تحت عباءة قوى «الثامن من آذار»، كان في لبنان قدرٌ من التوازن السياسي على الرغم من هيمنة سلاح «حزب الله» على المشهد الداخلي، ولكن يوم استُهدف السُّـنة والدروز عسكرياً في 7 أيار 2008، بدأ مسار تراجع الوحدة السياسية لتلك القوى وتفككها، ودخلت في زواريب مصالحها الضيّقة على حساب مشروع وطني جامع كان مُعوّلاً عليه لتكريس الدستور، والعمل على استكمال تنفيذ الإصلاحات التي نصَّ عليها «الطائف السعودي»، وفتح الطريق أمام تطوير الدستور وفق الآليات التي رسمها.
أضحى، بحكم الواقع، الاختلال الفاضح في التوازن السياسي الداخلي. هو يعود إلى تشرذم تلك القوى التي حملت في سابق الأيام قضية سيادية، وإلى افتراقها الذي تعمَّـقَ مع التسوية الرئاسية في العام 2016 التي شكلت اتفاقاً على اقتسام السلطة بوصول ميشال عون لرئاسة الجمهورية، وسعد الحريري لرئاسة الحكومة، معطوفاً على تفاهمات مصلحية كان الظن أنها قادرة على تحفيز رئيس الجمهورية – من موقعه كرئيس للدولة – على انتهاج سياسة خارجية متوازنة، ولا سيما مع دول الخليج العربي، وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية. زاد فشل الحريري في رهانه على التسوية الرئاسية من حجم الاختلال الذي مكَّـنَ «حزب الله» أكثر مِن التحكّم بقرار الدولة الاستراتيجي وسياستها الخارجية، ومن الإمساك بمفاصلها وهيمنته عليها.
لا يمكن تجاهل تأثير الوقائع الإقليمية على مجريات الداخل اللبناني. على الدوام، كان الإقليم يعكس نفسه على لبنان وكان الداخل يشكل صدى للخارج، غير أن حجم الاختلال السياسي الحالي والناجم في جزء كبير منه عن رؤية القوى السياسية المقابلة لحزب الله بأن سلاح «حزب الله» هو مسألة إقليمية ودولية، وأن حلها تالياً ليس داخلياً، وحين تتم التسوية الخارجية، سيعود الحزب إلى حجمه الطبيعي لبنانياً. تلك الرؤية دفعت العديد من اللاعبين اللبنانيين إلى الانكفاء في حال انتظارية خامدة، وسلوك نهج تقطيع الوقت بأقل الخسائر واعتماد سياسة دفن الرأس في الرمل، إلى أن وقعت الواقعة.
فمع انهيار البلد مالياً واقتصادياً ونقدياً، بدأت الأسئلة تُطرح عن الأسباب التي أودت بالبلاد إلى الهلاك، رغم أن الفساد السياسي ليس جديداً. تكثر التحليلات عن أن تحالف المليشيا- المافيا فعل فعله في تسريع الانهيار، غير أن جانباً من القراءات يذهب إلى ان الاختلال الذي أصاب السياسة الخارجية والهيمنة الإيرانية بواسطة «حزب الله» أسهم بشكل كبير في انكشاف لبنان. وجاءت المقاطعة الخليجية، التي تقودها المملكة العربية السعودية والتي عزت الرياض أسبابها إلى وضع «حزب الله» يده على الدولة ومقدراتها وقرارها، بحيث أصبحت رهينة ومختطفة منه.
هذه التطورات تطرح جملة تحديات أمام اللبنانيين مسؤولين وسياسيين وشعباً، ولاسيما أن تداعيات تلك المقاطعة الخليجية ستفاقم من الانهيار في ظل الخسائر الاقتصادية التي سيتحملها لبنان وانعكاس المواجهة مع دول الخليج على اللبنانيين العاملين فيها، من دون أن تظهر في الأفق أي قدرة على اجتراح حل، في وقت بات ملف التحقيق في تفجير المرفأ قنبلة موقوتة قابلة للانفجار في أي لحظة لتطال شظاياها السلم الأهلي. فتعطيل الحكومة راهناً يمكن النظر إليه على أنه تعطيل لنزع الصاعق ليس أكثر، بانتظار أن يتبلور المسار الذي سيأخذه هذا الملف في الأسابيع المقبلة، والذي سيكون عنواناً من العناوين التي على أساسها ستخاض معركة الانتخابات النيابية.
اليوم، يدور سؤال عما إذا كان ممكناً فعلياً أن يشكل الاستحقاق الانتخابي تصويباً للاختلال السياسي الحاصل، وإحداث تغيير حقيقي من خلال بروز قوة سياسية تُحدث توازناً مع نفوذ «حزب الله». يذهب بعض ممن عاشوا فترة تحالفات قوى الرابع عشر من أذار إلى القول إن هذا التحالف الانتخابي ممكن، وسبق أن حصل في كل الانتخابات منذ 2005، ومن شأنه أن يفتح الطريق على استعادة قدر من التوازن المفقود. غير أن ذلك لا يشكل حلاً ناجعاً للمأزق الذي يعيشه لبنان، والذي يتطلب العمل على خلق إطار وطني عابر للطوائف يحمل هدفاً واضحاً هو رفع يد إيران عن لبنان، تماماً كما حصل في 2005 عبر رفع شعار إخراج سوريا من لبنان. وهذا الإطار الجامع أو الجبهة أو المنصة الوطنية لا بد أن يكون وليد قناعة داخلية بأن لبنان واقع تحت الاحتلال الإيراني ولا بد من تحريره، وأن يكون مؤمناً فعلاً بكل مندرجات «اتفاق الطائف» وضرورة التمسك بالدستور. فما دون ذلك، سيكون مرحلة تلاقٍ انتخابية يليه افتراق على المصالح.