كتبت زيزي اسطفان
لن يحمل «الجنرال الأبيض للبنانيين» إلا أياماً «سود». ووصوله إلى المرتفعات بعد حين سيكون هو الآخَر أشبه بـ «غزوةٍ» لأرضٍ منكوبة لن يمحو البياض الجميل مأسوية أحوالها وقتامتها.
الجبال التي غالباً ما كانت تفاخر بـ «وقارها» وهي تُلاقي شيْبَها الموسمي، هي الآن تكتوي بـ «نار جهنّم» السياسية – المالية في البلاد وتتحضّر لصقيعٍ ربما أشدّ مرارة من حرارة «الحريق» الاقتصادي – المعيشي.
في لبنان وأعاليه صار الشتاء استحقاقاً يكاد أن يكون مميتاً مع التلاشي المروّع لقدرة اللبنانيين على التدفئة… نعم إنه العراء السياسي – الاقتصادي الذي بات يحرم لقمة العيش ويجعلهم لقمة سائغة هذه المرة في فم صقيع لن يرحم.
كيف يواجه الشعب المُنْهَك أصلاً درجات حرارة تنخفض تحت الصفر نزولاً في بعض المناطق؟ كيف يتحمّل الأطفال وكبار السن وتلامذة المدارس في القرى الجبلية البرد القارس من دون وسائل تدفئة؟ وكيف تتحمل العائلات عبء توفير المازوت الذي حلقت أسعاره وصارت بالدولار الأميركي وهي بالكاد قادرة على تأمين قوتها اليومي؟ مَن ينظر إلى همّ هؤلاء ويمدّ لهم يد العون ليحصلوا على حقهم البديهي بالتدفئة؟ وهل يُتركون لمصيرٍ أسود يخيّرهم بين الموت جوعاً أو برْداً؟
يواجهون صقيع الشتاء بلا تدفئة
فيما مضى، اعتاد اللبنانيون الاستعداد باكراً لفصل الشتاء ولا سيما مَن يقطنون الجبال العالية فكانوا يخزّنون براميل المازوت ومؤونة الحطب ليتمكنوا من تمضية الشتاء في قراهم المعلّقة في الأعالي ويضمنوا الحصول على التدفئة المطلوبة.
اليوم، تبدّلت الأحوال.
فالشتاء يحلّ مترافقاً مع أهوال الأزمة الاقتصادية الخانقة ومحمَّلاً بسيل من الهموم يواجهها اللبنانيون باللحم الحيّ. برميل المازوت يعادل سعره 150 دولاراً أميركياً. وبحسب التقديرات تحتاج العائلة المتوسطة إلى خمسة براميل أو أكثر في الموسم أي ما قد يناهز 1000 دولار أي أكثر من 21 مليون ليرة، وفق سعر العملة الخضراء في السوق الموازية، والذي عاود وثباته الكبيرة في الأيام الأخيرة.
هو رقم مليونيّ خيالي بلا شكّ لن يكون ممكناً على العائلة المتوسطة والفقيرة تأمينه هذا إن بقيت المادة متوافرة في السوق المحلي ولم تشهد انقطاعاً كما حصل في فصل الصيف.
أهالي المناطق الجبلية وفاعلياتها بدأوا يرفعون الصوت متوجّسين من الأيام الآتية، طالبين من السلطات المعنية مساعدتهم ولكن حتى الآن لا حياة لمَن تنادي.
فالحكومة التي رفعت الدعم عن المحروقات من دون إيجاد أي خطط بديلة والتي لم تتمكن حتى اليوم من تنفيذ البطاقة التمويلية، لا تبدو جاهزةً ولا مستعدّة لمعالجة مشكلة التدفئة.
ووزارة الطاقة التي عجزتْ عن تأمين الكهرباء تركتْ المواطن عالقاً بين مطرقة جنون فاتورة الإنارة بمولّدات الأحياء التي تعمل على المازوت، وسندان التكلفة الحارقة لمازوت التدفئة.
بعضُ المرجعيات السياسية ومع اقترابِ موسم الانتخابات النيابية الربيع المقبل مبدئياً، بدأ «التحميةَ» لهذا الاستحقاق ويعمل لتأمين مادة المازوت للناخبين قبل انطلاق الحملة الانتخابية حتى لا يُعتبر الأمر «رشوة»، كما باشرت بعض الجمعيات الأهلية والمنظمات غير الحكومية العمل على دعم سكان المناطق العالية وتوفير بطاقاتٍ تخوّلهم الحصول على عدد معين من صفائح المازوت مجاناً، لكن العددَ لا يزال محدوداً جداً والمساعدة غير معمَّمة على كل المواطنين.
كلفة التدفئة همّ ثقيل
في حديث لـ «الراي»، يشرح وسيم مهنا مختار منطقة كفرذبيان، وهي من أعلى القرى الجبلية وأكثرها ازدحاماً بالمنتجعات السياحية، «أن الوضع هذا العام كارثي على سكان البلدة والقرى المحيطة بها، والتدفئة همّ إضافي يثقل كاهل أهالي الجبال وسكانها وحاجة أساسية لمعيشتهم اليومية، خصوصاً أن عدداً كبيراً منهم بات يمضي الشتاء في القرية بعدما صارت الإيجارات في المدن مرتفعة جداً وبعدما أصبحت المواصلات أسهل وعمليات جرف الثلوج وتأمين وصول التلامذة إلى مدارسهم مؤمنة بشكل دائم».
ويضيف: «سابقاً كان يتم دعم مادة المازوت وكانت أمور الناس مسهّلة. أما اليوم، فمتوسط تكلفة التدفئة المتوقعة تقارب 300 ألف ليرة يومياً وقد تتخطاها إذا ارتفع سعر المازوت لأن البيت العادي يحتاج إلى ما يعادل 20 ليتراً يومياً لجهاز تدفئة واحد.
ويأتي غلاء المازوت ليضاف إلى نكبة الأهالي الاقتصادية حيث يعتمد غالبيتهم على الزراعة وقد باعوا محصولهم الزراعي ولاسيما التفاح بأقلّ من سعر التكلفة، نتيجة ارتفاع أسعار البرادات بسبب غلاء المازوت والانقطاع المستمر للتيار الكهربائي من جهة، وغلاء الأسمدة والمواد الزراعية وأيضاً نتيجة تعثُّر التصدير الى الخارج والدول العربية من جهة أخرى.
وهذا الكساد في المواسم الزراعية انعكس سلباً على قدرة أهالي الجبال على تخزين المازوت».
من هنا، يرى المختار أن الوضع إلى تأزم ما لم تبادر المرجعيات المحلية والأهلية إلى مدّ يد المساعدة أما الدولة فلا يؤمل منها الكثير نظراً لأوضاعها المعروفة.
ويقول: «الحل هو في قيام البلديات الميسورة بدعم ناسها أقله ببرميل أو برميلين من المازوت، وأن تقوم الأحزاب على اختلافها بتقديم العون إلى مناصريها ولا سيما مع اقتراب موسم الانتخابات وأن تعمل الجمعيات الخيرية القادرة على استبدال الإعانات الغذائية بمادة المازوت.
وكذلك يمكن للمرجعيات الدينية أن تلعب دورها على هذا الصعيد وأن تؤمّن الدعم ليس للأهالي فقط بل للمدارس أيضاً التي تتبع في غالبيتها لهذه المرجعيات، حيث إن ما ينتظر طلابها في الشتاء قاس جداً.
وحتى الدول الصديقة التي لا تزال تهتمّ بلبنان وأهله يمكن أن تكون لها يد في المساعدة حتى لا يَدفع أبناء لبنان من لحمهم ودمهم ضريبة الانهيار الاقتصادي الذي أصاب دولتهم».
بالحطب والبلاستيك والكرتون… يتدفؤون
مع وصول سعر قارورة الغاز المنزلي إلى عتبات خيالية وتحليق سعر المازوت عالياً بحيث لم يعد خيار استخدام المادتين متاحاً للتدفئة إلا لقلّة من اللبنانيين، كان لا بد للأهالي من العودة الى «زمن كان يا ما كان» حين كانوا يستخدمون الحطب لإشعال مدافئهم.
ولكن يبدو أن هذا الخيار كذلك بات صعباً مع بلوغ سعر طن الحطب 200 دولار فيما يحتاج البيت أقله إلى خمسة أطنان في الموسم لتوفير التدفئة الضرورية.
وهذا الأمر بدأ ينعكس بشكل سلبي جداً على الطبيعة وأشجارها حيث عمد بعض أهالي الجبال والمناطق البعيدة في الأطراف إلى قطع الأشجار بشكل عشوائي وغير شرعي لاستخدامها في التدفئة.
وفي حين يقول مختار كفرذبيان أن الأمر مرفوض في منطقته و»لا يزال تطبيق القوانين محترَماً حتى لا تفقد الدولة ما تبقى لها من هيبة»، فإن منطقة رأس بعلبك مثلاً، تشهد كارثة بيئية، حيث قام مجهولون بقطع الأشجار الصغيرة التي تم زرعها في أراض مخصصة لـ «المشروع الأخضر» الذي كان مشروعاً رائداً يفاخر به لبنان، وحوّلوها حطباً للتدفئة.
ويؤكد مختار رأس بعلبك يوسف روفايل، أن «غالبية أهالي القرية ستضطر للنزول إلى بيروت لأنهم غير قادرين على تحمل برد الشتاء بلا أي وسيلة للتدفئة». ويقول «أوضاع الناس مؤلمة ولا سيما أن سكان القرى غالبيتهم من المتقاعدين وينالون راتباً تقاعدياً انخفضت قيمته إلى أدنى حد ولم يعد قادراً على تلبية احتياجاتهم الأساسية.
لكن ما يسند هؤلاء هو بعض المساعدات التي يتلقونها اليوم على أبواب الموسم الانتخابي من مازوت ومبالغ مالية ولكنها تبقى غير كافية. وقد بدأنا نلاحظ موجة من قطع الأشجار الحرجية والمثمرة لاستخدامها في التدفئة».
لاجئون في وطنهم
هذا حال اللبنانيين اليوم، على عتبة الشتاء. فهل يتحوّلون لاجئين في وطنهم أم يجدون أنفسهم مضطرين لتذوق ذلّ طلب المعونة من مرجعياتهم؟ وماذا عن النازحين السوريين في المناطق البقاعية والسلسلة الشرقية وكيف يؤمّنون مادة المازوت ووسائل التدفئة؟
تؤكد «سلام» التي تعمل في جمعية لغوث اللاجئين السوريين، أن المسجَّلين منهم ضمن لوائح الأمم المتحدة ينالون شهرياً مبلغاً بالدولار يمكّنهم من تأمين غالبية احتياجاتهم ولكن مع ارتفاع الأسعار لا شك أنهم سيعانون مثل اللبنانيين أزمةً في توفير التدفئة.
لكن المختار وسيم مهنا، يرى أن مأساة اللبنانيين باتت أكبر من مأساة السوريين الذين تقف المنظمات العالمية إلى جانبهم تساندهم وترعى شؤونهم، فيما اللبنانيون متروكون لمصيرهم، وهناك الكثير من العائلات التي كانت تعيش مستورة من غلة أرضها ترفض طلب المساعدة وتفضّل أن تستر نفسها بما أمكن بدل قبول الصدقات من هنا وهناك.
ومَن راقب المناطق الجبلية الفقيرة في موسم الشتاء الماضي، لاحظ بأم العين كيف كان بعض الأهالي يعمدون إلى إشعال ما توافر من مواد قابلة للاشتعال، مثل الورق والكرتون وحتى البلاستيك والنايلون «يفرزونه» من النفايات، أو كانوا يجمعون أغصان تشحيل الأشجار اليابسة و«الجفت» المتبقي من عصر الزيتون ليحولوه مادة يشعلونها في مواقدهم… وكأنه كُتب على الشعب اللبناني أن «يتجمّد» برْداً، مكتوياً بـ «جهنّم» الانهيار.
https://www.alraimedia.com/article/1562722/خارجيات/تقارير-خاصة/هل-يكون-لبنان-المتجمد-الكبير-في-شتاء-2022