هل قال أوليفييه دي شوتر كلمته يوم الجمعة الماضي ومضى حول «مثالب» الطبقة السياسية، المكوّنة لممثلي الطوائف، أو الأقوى في طوائفهم، بتعبير جبران باسيل (رئيس التيار الوطني الحر)، صاحب البدع الغريبة والعجيبة، وهو يحاول إنقاذ لبنان، عبر دفعه إلى الهاوية، وقد بلغها، هل انتهت مهمة الخبير الأممي عندما حدد على نحو دقيق ما آل إليه الوضع في لبنان، أم أن للتقرير تتمة؟
أغلب الظن ان الرجل قال كلمته وغادر، ولكن مهمته لم تنتهِ، فهو بحكم مهمته في الأمم المتحدة، مقرر خاص بالفقر المدقع وحقوق الإنسان، والأمم المتحدة، التي تشغل منظماتها وهيئاتها الرسمية والوكالات المنبثقة عنها، بتتبع أوضاع الدول المتعثرة، أو الفاشلة، معنية بالبحث عن كيفية المخارج أو المعالجات الممكنة.
على أن الأهم، هو ما تضمنه التقرير لجهة كونه يتضمن، ضمناً وصراحة، مضبطة اتهام بحق الطبقة السياسية، وإن كان استخدم عبارة «حكومة تخذل شعبها».
لم تكن الحرائق التي أتت على مساحات خضراء واسعة في الجنوب، من القصيبة إلى محيط باريش، والمنطقة الحرجية بين الزرارية وصير الغربية، ووادي العزية – زبقين والحنية وخراج مجدل زون وجب سويد، قد اندلعت، عندما أطلق الخبير الأممي صرخته المدوية، في أروقة الأمم المتحدة في نيويورك، وهو يتحدث عن خلاصة رحلة دامت 12 يوماً، وهو يبحث عن أسباب الفقر المدقع والانهيارات، في بلد «كان ذات يوم منارة تسترشد بها المنطقة»، عندما كانت «مستويات التنمية البشرية عالية والقدرات كبيرة».
كان الخبير الحقوقي والتنموي يتحدث عندما كان لبنان مضرب المثل، في الشرق، لجهة قوة نقده، ومناعة اقتصاده، على الرغم من أنه كان منذ قيام دولة إسرائيل في 15 أيار 1948 على خط الزلازل، والصراعات بين حركة التحرر العربية، منذ أيام جمال عبد الناصر والقوى المدافعة والداعمة لإسرائيل، وإبقاء الأقطار العربية في حالة تخلف وتأخر، وضعف وانحلال… كان ربما يتحدث عن «المعجزة اللبنانية» (Miracle Libanais) عندما كانت الليرة اللبنانية يجري تداولها في أسواق أوروبا (فرنسا وبريطانيا)، وكانت الحكومة اللبنانية تعرض تقديم الدين لدولة كبرى مثل الصين في أوائل الستينيات من القرن الماضي.
دخلت في السنوات الفائتة، بعد الطائف مئات مليارات الدولارات إلى البلد… فاختفت بسحر ساحر، التهمتها نيران الجشع والطمع الكامنة في نفوس جماعة من السفلة، وضعوا أيديهم الملطخة بالدماء على رقاب الدولة الخارجة للتو من حرب السنتين وحروب «الأخوة الأعداء» داخل الطوائف، وبين الطوائف، فضلاً عن الغزوات والاعتداءات والاجتياحات الاسرائيلية المدمرة.
قال دي شوتر: «لبنان ليس دولة منهارة بعد، لكنه على شفير الانهيار، وحكومته تخذل شعبها»… هو شاهد «مشاهد في لبنان لم أتصور قط أنني قد أراها في بلد متوسط الدخل» على حد تعبيره.
لا أظن أن الموفد الأممي يقصد حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، التي تشكّلت في 10 أيلول الماضي بعد 13 شهراً من الفراغ، إثر توافق معقد بين الافرقاء السياسيين إياهم الذين تسببوا بالأزمة المتمادية منذ 17 ت1 (2019)، وتضع البلد على شفير الانهيار:
1- 80% من الشعب اللبناني باتوا تحت خط الفقر.
2- شح هائل في الأدوية، ولا سيما أدوية الأمراض المستعصية.
3- أزمات مفتوحة على صعيد المحروقات (مازوت، بنزين، غاز) مع ارتفاع غير مسبوق في الأسعار. سعر صفيحة البنزين مثلاً يساوي نصف الحد الأدنى للأجور المعمول به رسمياً (675000 ليرة لبنانية).
4- تقنين خطير في التغذية بالكهرباء، آيل للتحسن، ولكنه مشروط ببقاء الحكومة وصمود التفاهمات الاقليمية والدولية.
5- رفع الدعم عن الأدوية والخبز والطحين، مما رفع سعر ربطة الخبز 5 أو 6 أضعاف في أقل من شهرين.
6- استنزف الانهيار الحاصل احتياطات المصرف المركزي (صرف ما لا يقل عن 18 مليار دولار من الاحتياط المستنزف أصلاً خلال عام وصف كانت فيه حكومة حسان دياب في حالة بين الاجتماع والاستقالة).
7- فقدت الليرة اللبنانية أكثر من 90% من قيمتها، في حين تبخرت الرواتب العليا، فضلاً عن أن الرواتب الدنيا باتت وكأنها لم تكن (معدومة).
8- وحسب البيانات الرسمية لوزارة الاقتصاد وسواها فإن أسعار المواد الغذائية ارتفعت أكثر من 5 أضعاف في أقل من عام واحد.
9- وحسب البنك الدولي، فإن معدل التضخم بلغ 131.9% خلال الأشهر الـ6 الأولى من العام 2021.
10- حسب منظمة «سايف دي تشيلدرن» فإن «الأطفال في لبنان لا يأكلون بانتظام، لأن أهلهم يعانون من أجل تأمين المواد الغذائية الأساسية لهم».
11- هذا فضلاً عن البطالة والهجرة التي عصفت بالمؤسسات وأغلقتها، وصرف العمال والمستخدمين، حتى من دون تعويض في أحيان كثيرة.
الأخطر ما في تقرير دي شوتر أن «تدمير الليرة اللبنانية أدى إلى تخريب حياة الناس وإفقار الملايين»، وأن «الأزمة المصطنعة» ستحكم على الكثيرين بفقر سيتوارثه الناس جيلاً بعد جيل».
ولأن الكارثة مصطنعة فإنها من صُنع الإنسان، وليس بفضل حروب أو عوامل طبيعية أو انهيارات وزلازل ونكبات لا شأن للبشر بها.
ومن دون استغراق في توجيه التهم للطبقة الحاكمة يتساءل واضع التقرير: «السؤال المطروح هو علامَ أنفق القادة السياسيون الموارد، على مدى عقود؟ ملاحظاً أن هؤلاء تجاهلوا الحاجة إلى سياسة اجتماعية، من برامج قوية في الرعاية الاجتماعية وبنى أساسية للخدمة العامة، وبدلاً من ذلك جرى التركيز على «القطاعات غير المنتجة مثل المصارف، مضاعفاً (أي التركيز) الدين العام باستمرار، ومكرساً تلك الموارد لخدمته».
والصدمة التي يعبّر عنها تكمن في انفصال المؤسسة السياسية عن واقع الذين يعيشون في فقر على الأرض.
لم يمضِ الخبير الأممي كثيراً في وضع الاقتراحات للمعالجة، فهو رأى:
1- الحاجة إلى نظام شامل للرعاية الاجتماعية، والتأمين ضد البطالة، وحماية معاشات الشيخوخة والإعاقة ومستحقات المرض والأمومة والأبوة.
2- إعادة النظر في النموذج الاقتصادي اللبناني السائد… القائم على الريعية وعدم المساواة والطائفية.
والأهم ان المجتمع الدولي لن يأخذ الاصلاحات على محمل الجد، ما لم يرَ أمامه «خطة موثوقة لتمويل الاقتصاد، ومعالجة المساواة، وضمان العدالة الضريبية، والتقليل من المآزق السياسية»، فضلاً عن المساءلة والالتزام الجدي «بمبدأ الشفافية».
والحال، أخذ التقرير نصيبه لدى الإعلام اللبناني، ولكن لا حياة لمن تنادي لدى الطبقة السياسية، الغارقة في تصفية الحسابات بين الرئاسات والمواقع، والتلاعب حتى على قانون الانتخاب، فضلاً عن الانتخابات نفسها.
تحظى حكومة الرئيس ميقاتي المتعثرة بدعم أميركي وأوروبي، فضلاً عن بعض العرب ودول نافذة في الاقليم، لكنها تعاني من انقسامات وخلافات لا يستهان بها… فها هو الشهر الثالث على تأليفها ينتصف من دون تلمّس مخارج لعودة مجلس الوزراء للانعقاد على خلفية أداء المحقق العدلي طارق بيطار في انفجار المرفأ، وعدم إقدام الوزير جورج قرداحي على مغادرة مجلس الوزراء في ضوء ما سببته تصريحاته من إجراءات خليجية وسعودية ليست في مصلحة لبنان واقتصاده وحتى استقراره.
والأخطر ما في الموقف هو أن الطبقة التي قادت لبنان إلى مستويات عالية من الانهيارات على صعد عدة، لا تزال هي هي تتنطح لإدارة الحل أو الحلول، بعيداً عن أي مراجعة أو محاسبة، أو حتى عن نقد ذاتي، فكل حزب أو تيار أو فريق سياسي، طائفي ومذهبي، بما لديه فرحون!