كتب شارل جبور في “الجمهورية”:
المعادلة منذ العام 1990 واضحة تماماً على رغم انّها غريبة ومعاكسة لمنطق الأمور: بقدر ما تقوى الدولة يقوى محور الممانعة، ممثلاً في المرحلة الأولى بالنظام السوري، وفي المرحلة الثانية بـ«حزب الله»، وبقدر ما تضعف الدولة يضعف هذا المحور. لماذا؟
أمسك محور الممانعة منذ العام 1990 بالمفاصل الاستراتيجية للدولة اللبنانية مع الانقلاب على اتفاق الطائف، وخروج الجيش السوري من لبنان في العام 2005 لم يحرِّر الدولة من هذه القبضة على رغم انّها لم تعد ممسوكة بشكل كامل مع «حزب الله» على غرار ما كانت عليه مع النظام السوري. ولكن مجرّد ان يحتفظ الحزب بسلاحه ويُمسك بالحدود البرية والبحرية والجوية ويصادر قراري الحرب والسلم ويمنع قيام الدولة، فيعني انّ الدولة ما زالت تشكّل غطاءً لسياساته.
وفي سياق هذا المنطق بالذات، فإنّ من مصلحة «حزب الله» الاستراتيجية ان يعزِّز قوة الدولة المالية والاقتصادية والسياسية من دون السيادية طبعاً، لأنّه بقدر ما تصبح الدولة متماسكة على غرار ما كانت عليه في الزمن السوري، بقدر ما يعزِّز دوره ويُبعد الضغوط عن نفسه، وبقدر ما تَضعف الدولة بقدر ما يَضعف دوره. فلا مصلحة للحزب ان تكون الدولة ضدّه، ولا مصلحة له بالمقابل ان تنهار الدولة ويخسر أوراق قوته وينكفئ إلى داخل مناطقه ويتراجع دوره ويتحول شأنه شأن اي مكون يمثِّل بيئته ويصبح رأسه مكشوفاً.
فالمعادلة التي كان يفترض بـ«حزب الله» الحفاظ عليها والموازنة بينها، تكمن في الآتي: دولة مستقرة مالياً وسياسياً واجتماعياً، ودولة قرارها الاستراتيجي بيده، لأنّه ما قيمة إمساكه بمفاصل دولة منهارة وغير مستقرة والناس ثارت وتثور ضدّها؟ لا شيء طبعاً، خصوصاً انّ الرأي العام سيحمِّله مسؤولية انهيارها وتحديداً لجهة الربط بين إمساكه بقرارها وانهيارها. إذ لو لم يكن ممسكاً بهذا القرار لما انهارت، حيث انّ سياساته قادت الدولة إلى هذا الانهيار.
وهناك من يعتبر انّ ما آلت إليه الدولة في ظل إمساك «حزب الله» بقرارها الاستراتيجي طبيعي لثلاثة أسباب:
السبب الأول، لفقدان الخبرة السياسية في ممارسة الحكم وكيفية إدارة الدولة، ولم تثبت هذه الحالة التي تشكّل فرعاً من فروع الحكم الإيراني قدرتها في اي بلد انتزعت نفوذاً فيه على إرساء الاستقرار وتعميم الازدهار.
السبب الثاني، لتضارب أولوية مشروع الحزب الإقليمي مع مشروع الدولة، حيث انّ طغيان الأولوية الخارجية على الداخلية يرتد سلباً على دور الدولة، وليس بإمكانه تغيير الأولويات ربطاً بعقيدته.
السبب الثالث، لحاجته إلى تحالفات سياسية توفِّر الغطاء لمشروعه ضمن سياق تبادل الخدمات المعروف: الغطاء لسلاحه ودوره يقابله الغطاء لسياسات النفوذ والمصالح.
وعلى رغم موضوعية الأسباب أعلاه التي تؤكّد استحالة التعايش بين الدولة والحزب، إلّا انّ مركزية الدولة في استراتيجية «حزب الله» كان يجب ان تدفعه إلى التخفيف من تأثيرات الخارج والداخل حفاظاً على دورها كغطاء لدوره، لأنّ انهيارها لا يخدم استراتيجيته، وعلى رغم إدراكه لذلك يواصل هدم ما تبقّى من وجود لهذه الدولة، في تأكيد إضافي انّ الطبع يغلب التطبُّع. وتكفي الإشارة إلى ثلاث محطات تؤكّد بالملموس طبيعة مقاربته للأمور على قاعدة إما أبيض وإما أسود، وعدم قدرته على المزاوجة بين دوره المباشر ودوره غير المباشر من خلال الدولة.
المحطة الأولى تعطيله الحكومة المؤلفة حديثاً، والتي شكّل تأليفها مصلحة له من أجل ان تفرمل الانهيار تجنباً لانهيار الدولة، إذ، وعلى رغم قواعد الفصل بين السلطتين التنفيذية والقضائية، إلّا انّه خيّر الحكومة بين ان تكفّ يد المحقق العدلي في انفجار المرفأ القاضي طارق البيطار، وبين الشلل المفتوح، ويتعامل معها وكأنّها ضدّه، فيما يمسك بأكثريتها، ونجاحها يعني استمرار إمساكه بمفاصل الدولة.
المحطة الثانية، دخوله في مواجهة مع السعودية واستطراداً الخليج، على خلفية تصريحات وزير الإعلام، فيما كان بإمكانه عدم وضع نفسه بالواجهة، وان يأتي التنازل عن طريق غيره، ترجمة للمناشدات الوطنية في هذا الاتجاه، والخاسر في هذه المواجهة هو الحزب لا الرياض، لأنّه بدلاً من ان يكون في موقع المسهِّل للحكومة انفتاحها على الدول الخليجية وغيرها تحصيناً لوضعها، أدخلها في مواجهة أدّت إلى تعميق شللها والحدّ من دورها الخارجي.
المحطة الثالثة، تعميق مشكلته مع المكونات اللبنانية إن من خلال تعبئة السنّة ضدّه على خلفية مواصلة استهدافه للمملكة العربية السعودية، او من خلال شحن المسيحيين ضدّه على خلفية الدخول عنوة إلى عين الرمانة ومحاولة إخضاعهم، او من خلال استنهاض جميع اللبنانيين ضدّه على خلفية منعه قيام الدولة.
وتكفي المقارنة بين عامي 2005، تاريخ استلامه للدولة من النظام السوري الخارج من لبنان، واليوم، للدلالة على الوهن الذي أصاب هذه الدولة مع إمساكه بقرارها، ولولا الحرص الدولي والأميركي تحديداً على الاستقرار في لبنان لكانت انهارت الدولة بصورة نهائية، وانهيارها يعني فقدان «حزب الله» ورقة استراتيجية ورثها عن النظام السوري، ودوره في الحفاظ على هذه الورقة لا يساوي إطلاقاً حجم حاجته إليها.
ولم تنهار الدولة إلّا نتيجة تحميلها ما لا قدرة لها على تحمّله: لا تستطيع الدولة ان تتحمّل أعباء مواجهة «حزب الله» مع الدول العربية والغربية، ولا تستطيع الدولة ان تتحمّل كلفة سياسة التعطيل التي يعتمدها في كل مرة يريد فيها الحصول على مآربه، ولا تستطيع الدولة ان تتحمّل كلفة وأعباء مشروع إقليمي أكبر من قدراتها.
وبعد الانهيار التدريجي لكل الاحتياطي الاستراتيجي للدولة، لم يعد باستطاعتها النهوض مجدداً، سوى في حال تخلّصت من دور «حزب الله» الذي أوصلها إلى القعر بفعل دوره الخارجي والداخلي في آن معاً، وقد دلّت الأحداث في أقل من 15 سنة، على انّ التعايش بين الدولة والحزب مستحيل، وانّ الانهيار مسألة حتمية، وانّ سقوط هيكل الدولة مسألة وقت لا أكثر ولا أقل، والانطباع الأخير مردّه إلى عدم اكتراثه بتعطيل عمل الحكومة، على رغم الوقت الذي استغرقه تأليفها والانهيار والدولار وغضب الناس.
ومع فقدان «حزب الله» التدريجي لورقة الدولة يكون قد قدّم أكبر خدمة لأخصامه في الخارج والداخل الذين باتوا على قناعة بأنّ إضعاف الدولة هو إضعاف للحزب، وتقويتها يؤدي إلى تقويته، وانّ إخراج لبنان من هذا المستنقع يتطلّب الدفع باتجاه دولة بديلة بعد السقوط النهائي لدولة العام 1990، ولكن الدولة البديلة تعني الدخول في مرحلة من الفوضى، فهل من بديل آخر؟ وهل ما كُتب قد كُتب؟ وهل من فريق آخر غير «حزب الله» يتحمّل مسؤولية الإنزلاق نحو الفوضى؟ وهل مواجهة الحزب ممكنة من خلال التوازنات المحلية والعربية والغربية؟ للبحث صلة.