جاء في “العرب” اللندنية:
يسير التشيع الصفوي اللبناني القائم على إرث من التزلف والنفاق، والذي تبناه حزب الله وأصبح من خلاله حزبا تابعا مباشرة للحرس الثوري الإيراني، نحو الانكسار حيث صار الشيعة اللبنانيون يحتجون ليس ضدّ الأزمات التي تعصف ببلادهم فقط، بل أيضا ضدّ التشيع الصفوي الذي فرض نفسه مع نشأة حركة أمل فرهنهم لإيران وعزلهم عن انتمائهم العربي، وحولهم من شعب يطالب بالعدالة والمساواة إلى جماعة ترتهن لعصبة مسلحة تضطهدهم وتسلب حقوقهم.
يواجه “حزب الله” و”حركة أمل” انكسارا في جنوب لبنان لم يعرفه تاريخ التشيع في البلاد منذ أن نشأت إمارة حسام الدين بشارة العاملي في العام 1188، إلى يومنا هذا.
الاحتجاجات التي تتكرر في جنوب لبنان ليست مجرد تعبير عن نقمة شعبية على الأوضاع المعيشية الصعبة التي يعيشها اللبنانيون، بل لأن هناك قطاعات وعائلات شيعية تبرز للخروج ضد مشروع “التشيع الصفوي” الذي فرض نفسه منذ أن نشأت حركة “أمل” على يد رجل الدين الإيراني موسى الصدر في العام 1974 كـ”حركة مقاومة” عشية اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية في العام 1975.
السمة الظاهرة في الاحتجاجات في جنوب لبنان هي أنها تقطع طرقا وتعزل مناطق سكنية وعائلات شيعية ترى أن “الاحتلال الإيراني” ليس مما يناسب لبنان، وأن عروبة لبنان هي أساس وجوده، وأن الشيعة اللبنانيين هم عرب تعود أصولهم إلى اليمن، وأن محاولات ربطهم بالصفوية الفارسية عمل شاذ ولا يتوافق مع تلك الأصول.
وإحدى أبرز الشخصيات المناوئة للمشروع الإيراني هي الأمين العام السابق لحزب الله الشيخ صبحي الطفيلي بالذات، الذي خاطب عناصر حرب الله عقب أحداث الطيونية في أكتوبر الماضي بالقول “من يُقتل منكم ويحمل سلاحا ويتحمّس، فهذا يُقاتل في سبيل الشر، وإذا قُتل، فهو ليس شهيدا، أنتم قتلى فتنة، وقتيل الفتنة في النار”. وقال في إشارة إلى حسن نصرالله “الزعيم لم ينتصر على خصمه، بل انتصر عليكم، وبعدها جلس هو وخصمه على طاولة واحدة واتفقا على سرقة البلد ونشر الفساد”.
والطفيلي ليس وحيدا في الدعوة إلى مناهضة السياسات التي يمارسها حزب الله بغطاء وتمويل إيرانيين، فهناك شخصيات عدة من جنوب لبنان تعارض المنهج الذي يسلكه “الثنائي الشيعي” في دفع البلاد إلى الانهيار، بإقامة دولة موازية تابعة للحرس الثوري الإيراني.
يعود اسم “جبل عامل” الذي يرتبط شيعة لبنان به إلى قبيلة “عاملة” من سبأ اليمنية التي هاجرت بعد حادثة سيل العرم وانهيار سد مأرب. وهو ما يفسر ارتباط شيعة لبنان بالعالم العربي واللغة العربية.
وتختلف أصول ودوافع التشيع في لبنان عن قرينيه في العراق وإيران. إذ صار لكل منها أساس مختلف.
ففي حين أن التشيع في العراق هو تشيع وجداني ارتبط تاريخيا بالولاء للخليفة الرابع علي بن أبي طالب، في خضم صراعه مع معاوية بن أبي سفيان، وتاليا إلى الجيل الثاني، بين الحسين بن علي ويزيد بن معاوية، فإن التشيّع في إيران هو مشروع سلطوي أسسه إسماعيل شاه الصفوي ليسيطر به على أقليات إيران، بينما التشيع في لبنان كان مشروع طلب حماية في خضم صراعات الإمبراطوريات المختلفة التي مرت على لبنان.
وكثيرا ما يلقب شيعة لبنان بـ”المتاولة”، وهو لقب يطلق على من اتخذ له وليا ومتبوعا من خارج أهله.
ويذكر المؤرخون أن التشيع انتشر في عهدي الدولتين الأموية والعباسية في بلاد جبيل وكسروان ومدينة جزين وميس الجبل، وكانوا شيعة إسماعيليين، وليسوا شيعة إثنا عشرية.
ويشترك الإسماعيلية مع الإثنا عشرية في مفهوم الإمامة، ووقع الانشقاق بينهم بعد موت جعفر الصادق، فرأى فريق منهم أن الولاية توقفت بوفاة ابنه إسماعيل، بينما أحالها الإثنا عشريون إلى أخيه موسى الكاظم، وأتموها إلى 12 إماما حتى غياب “المهدي المنتظر”.
وعلى الرغم من توفر إمكانية العثور على جثمان موسى الصدر ورفيقيه الذين اختفوا في ليبيا في عهد معمر القذافي، إلا أن متاولة “حركة أمل” وظفوا “غياب موسى الصدر” ليغذوا به المخيال الشيعي بغائب آخر خلعوا عليه صفة القداسة.
وكانت الدولة الفاطمية، التي تأسست في مدينة المهدية عام 912، قبل أن يفتح الفاطميون مصر في العام 969، هي أول مصادر الولاء الخارجي لشيعة لبنان، وهو ما يفسر سبب تبنيهم الإسماعيلية. والفاطميون إسماعيليون. بينما لم تعرف الإسماعيلية طريقها إلى العراق، لأن هذه البلاد لم تخضع لحكم الفاطميين، وظلت “الشيعية الوجدانية” في العراق على طبيعتها الأصلية.
وعلى الرغم من أن الدولة الأيوبية قضت على الدولة الفاطمية، فإن صلاح الدين الأيوبي الذي يعتقد أنه كان سنيا أشعريا، لم يحارب بقايا الإسماعيلية، لأن هدفه في مواجهة الصليبيين لم يكن مذهبيا من الأساس. ولقد اتسم بالتسامح مع الصليبيين أنفسهم ومع المسلمين أيضا. وحيثما كانت معاركه مع الصليبيين تدور رحاها حول حصون تقع على أطراف جبل عامل فإنه عندما استعاد قلعة هونين من أيدي الصليبيين في سنة 1188 م، فقد ولّى على المنطقة أميرا محلّيا، هو حسام الدين بشارة بن أسد الدين العامليّ. وهي الولاية الشيعية التي ظلت قائمة حتّى الفتح العثمانيّ.
وواضح من هذين المفصلين التاريخيين، أن “متاولة” لبنان الذين والوا الدولة الفاطمية واستأنسوا تسامح الدولة الأيوبية، كانوا عرب الانتماء، قبل أن يدفعهم الفتح العثماني إلى اللجوء إلى إيران للبحث عن دعم، وهو ما حصلوا عليه في عهد إسماعيل شاه الصفوي.
وعلى الرغم من أن بعض شيعة لبنان ينسبون تشيعهم إلى أبوذر الغفاري، فإن معظم المؤرخين يعتبرون الربط بين شيعة لبنان وأبي ذر الغفاري مجرد خرافة لأنه، وإن كان مواليا لعلي في مواجهة معاوية إلا أنه، وعلي بن أبي طالب نفسه، ما كان “شيعيا” ولا “إماميا” بالمعنى المذهبي للكلمة. مما يجعل نسب التشيع في لبنان إلى أبي ذر مجرد إمعان في الشطط.
ولكن التشيع الإثنا عشري في لبنان كان في أصوله تشيعا عراقيا. وكان من أوائل الذين أرسلهم علماء الاثنا عشرية العراقيون إلى لبنان أبوالفتح الكراجي المتوفى 449هـ، فتحول كثير من السكان إلى التشيع الإمامي، وتركوا المذهب الإسماعيلي الذي ضعف مع ضعف الدولة الفاطمية في مصر.
كما يُنسب أول ارتباط لشيعة لبنان بشيعة العراق إلى إسماعيل بن الحسين العودي الجزّيني الذي تلقى علومه في مدينة الحلّة في العراق قبل أن يعود إلى جبل عامل لينشر ما تعلمه. ثم تلاه الفقيه نجم الدين طومان العاملي الذي عاش في الحلة لثماني سنوات حتى نال رتبة الاجتهاد. وكان أول فقيه عاملي يفتتح مركزا للتدريس في جبل عامل.
حتى ذلك الوقت لم يكن هناك صراع بين السنة والشيعة بمختلف أطيافهم، ذلك أن الاختلافات بينهم ظلت مجرد اختلافات مدرسية، إلى أن دخلت الصفوية الفارسية على الخط، فتحولت العلاقات بين سنة إيران وشيعتها إلى مجازر وحشية قادها إسماعيل شاه لكي يفرض على كل الأقليات المذهب الشيعي.
العثمانيون ردوا على تلك المجازر بأن شنوا مجازرهم الخاصة ضد الشيعة والعلويين في بلاد الشام حتى قضوا على عشرات الآلاف منهم، ولكنهم لم يجرؤوا على ذلك في العراق.
وتعود أصول الصفوية إلى صفي الدين الأردبيلي المولود عام 1334، وهو الجد الخامس للشاه إسماعيل الذي توج ملكا على إيران في 1502.
المنقلب الشيعي اللبناني نحو إيران بدأ من الشيخ نورالدين أبوالحسن علي بن الحسين بن عبدالعال العاملي الكركي، وهو من بلدة كرك نوح. إذ هرب من اضطهاد السلطة العثمانية إلى مصر أولا، ثم العراق حيث أمضى زمنا في النجف قبل أن يتوجه إلى إيران بدعوة من إسماعيل شاه الصفوي.
ويقول المؤرخون إن الكركي فاز بعطايا كثيرة من الشاه إسماعيل، كما حصل على منصب “شيخ الإسلام”، فرد على ذلك بأن أعطى الشاه إسماعيل “وكالة للحكم نيابة عن الإمام المهدي” بصفته كفقيه مجتهد. ولما مات الشاه إسماعيل وخلفه ابنه طهماسب، كتب له الشاه الجديد فرمانا، جاء فيه “أن معزول الشيخ لا يُستخدم، ومنصوبه لا يُعزل”.
ويرى المؤرخون أن هاتين الحادثتين اللتين كانتا تعبيرا عن التملق، هما اللتان أسستا لنظرية “ولاية الفقيه”، وهي النظرية التي نُسبت إلى روح الله الموسوي الخميني، أثناء إقامته في العراق، رغم أنه أخذ فكرتها الأصلية من الكركي. وعلى الرغم من أن تلك النظرية لم تلق قبولا من “الحوزة العلمية” في النجف واعتبرها بعض كبار علماء النجف تجديفا، إلا أنه بدأ بفرضها فور عودته إلى إيران في العام 1979.
التشيع الصفوي كان في الواقع تشيعا سلطويا تم فرضه بالقوة وأعمال القهر والمجازر التي طالت “آلاف الآلاف” من أبناء الأقليات الإيرانية، حتى أن بعضها تحول إلى تلال من الجماجم. وكان تشيعا سياسيا، طوره الخميني حتى أصبح تشيعا حزبيا يقتصر على قائد واحد، ويكفر كل الآخرين، إذا كوّنوا أحزابا تعارض سلطة “نائب المهدي”. وحيث أن الأساس في هذه النظرية كان عملا من أعمال التزلف، فإنه ما كان ليُعقل أن يُصبح جزارا مثل الشاه إسماعيل “نائبا للمهدي”، حتى ولو كان بعض الباحثين الإيرانيين يعتقدون أن المهدي نفسه سيكون هو الآخر جزارا مثل نوابه.
ويقول المؤرخ العراقي علي الوردي عن حكم الصفويين لإيران والعراق “إن هذا الرجل (الشاه إسماعيل الصفوي) عمد إلى فرض التشيع على الإيرانيين بالقوة، وجعل شعاره سبّ الخلفاء الثلاثة. وكان شديد الحماس في ذلك سفاكا لا يتردد أن يأمر بذبح كل من يخالف أمره أو لا يجاريه. وقيل إن عدد قتلاه ناهز ألف نفس”.
التشيع في العراق ظل على طول الخط تشيعا وجدانيا. وهو تشيع ثقافي وفكري في بعض جوانبه، إلا أنه تشيع عاطفي بالدرجة الأولى، قاعدته محبة آل البيت، ولم يتحول إلى تشيع سياسي على الإطلاق، دع عنك أن يكون حزبيا. وبينما توزع الشيعة العراقيون في تاريخهم المعاصر على كل الأحزاب، وخاصة الحزبين الشيوعي العراقي والبعث العربي الاشتراكي، إلا أنهم لم يشكلوا حزبا سياسيا “شيعيا”. وعندما ظهر حزب “الدعوة” فقد ظل معزولا كحزب مرتبط بإيران، وذلك قبل أن تؤسس بعض العوائل مثل الصدر والحكيم ميليشيات في إطار الغزو الأميركي للعراق في العام 2003، لتنشق بدورها عن طبائع التشيع العراقي، الأمر الذي جعلها أحزابا يقوم الشيعة أنفسهم في جنوب العراق بحرق مقراتها.
وبرغم كل هذا وذاك، فقد ظلت “الطائفية” شيئا منبوذا في العراق، مما أجبر حتى الطائفيين الموالين لإيران أن يزعموا أنهم يرفضونها. بينما ظلت الطائفية عنوانا رئيسيا من عناوين الهوية في لبنان.
ويعود جانب من الفضل في “وجدانية” التشيع العراقي، إلى السلطان سليمان القانوني. فعندما دخل إسماعيل الصفوي بجيشه إلى بغداد عام 1508، فقد “فتك بأهلها وأهان علماءها وخرّب مساجدها وجعلها اصطبلات لخيله وهدم ما كان فيها من قبور أئمة السنة، وذبح جماعة من علمائهم”، ولكنه شيّد بناية ضخمة على قبر موسى الكاظم. وتابع الشاه طهماسب سيرة أبيه في تدمير مساجد السنة ورعاية المراقد الشيعية، مما كان لا يرضي الشيعة أنفسهم، وبالنظر إلى أنهم عانوا من مظالم جيش إسماعيل شاه مثلما عانى السُنة، في بغداد على وجه الخصوص التي حوصرت حتى صار أهلها يأكلون من القمامة.
وعندما نجح السلطان سليمان القانوني في تحرير بغداد في العام 1534، أعاد بناء ضريحي عبدالقادر الكيلاني وأبي حنيفة النعمان، كما أمر أيضا بإكمال بناء مرقد الإمامين موسى الكاظم ومحمد الجواد في الكاظمية، وأشرف على رعاية كل المراقد الأخرى للطائفتين من دون تمييز. ومنذ ذلك الوقت ظل أبناء الطائفتين يتجاورون ويتزاوجون وكأن لا فوارق بينهم.
وإرث التزلف والنفاق هو الذي أنشأ الرابطة الوثيقة بين “التشيع الصفوي اللبناني” الذي قاده موسى الصدر في لبنان، عندما جاء من إيران في العام 1960 مدفوعا من مراجعها، ليخلف المرجع اللبناني عبدالحسين شرف الدين. وهو المشروع الذي تكفلت الثورة الإسلامية في إيران في العام 1979 برعايته وتسليحه وتدريب ميليشياته من بعد “غياب” الصدر. وكان ذلك بمثابة انقلاب جذري ضد الإرث الذي خلفه شرف الدين، صاحب كتاب “المراجعات” الذي خاض فيه حوارا مع شيخ الأزهر سليم البشري، ومهد بفضله من قبول المذهب الشيعي ضمن المذاهب الإسلامية الأخرى فأصبحت خمسة بدلا من أربعة (الحنفي والحنبلي والشافعي والمالكي).
شرف الدين ولد في الكاظمية في العام 1873، بسبب إقامة والده (يوسف شرف الدين الموسوي الشحوري) هناك، وعاش فيها حتى العام 1905، وكان عروبيا وتحرريا بالمعنى العريض. إذ تقول بعض المصادر إنه “وقف بقوة إلى جانب الثورة العربية الكبرى، وكان من المنادين بالوحدة السورية تحت راية الملك فيصل. وكان من المعارضين للوجود الفرنسي وكان له دور بارز في مؤتمر وادي الحجير (عام 1920) بالحضّ على مقاومة الوجود الفرنسي في بلاد الشام”. وتعرض للاضطهاد من قبل الفرنسيين. ولما توفي عام 1957 دفن في النجف.
التشيع العروبي، الذي بناه شرف الدين، هو الذي ضاع بعد أن حوله حزب الله إلى مشروع صفوي
ما فعله موسى الصدر هو أنه انقلب على التشيع الوجداني العراقي، القائم على الاعتدال والمقبولية بين المذاهب الإسلامية، ليحوّل “التشيع اللبناني” إلى مشروع حزبي.
وعلى أساس هذا المشروع، تأسس حزب الله في خضم سنوات الحرب الأهلية العام 1982، ليكون حزبا تابعا مباشرة للحرس الثوري الإيراني. ذلك لأن بعض طبائع “التشيع التقليدي” ظلت تجد لها مكانا في “حركة أمل” التي قادها نبيه بري، وهو أمر لم يكن ليُعجب “الثوريين” في إيران.
اليوم يرى اللبنانيون الشيعة ماذا أورثتهم هذه “الثورية”، وكيف أنها حولتهم من شعب مضطهد يطالب بالعدالة والمساواة داخل وطن واحد، إلى عصبة مسلحة تضطهد الآخرين وتسلب حقوقهم وترهن بلدهم بقرار بلد آخر.
التشيع العروبي، الذي بناه شرف الدين، هو الذي ضاع، بعد أن حوله حزب الله إلى مشروع صفوي يتزعمه “نائب عن المهدي” لا يعد شعوب المناطق التي يهيمن عليها إلا بما فعله “نائبه الأول” الشاه إسماعيل، حتى لتعلو الجماجم تلالا.